متى أراد أستاذُ البلاغة أن يشرحَ لطلبته الفرقَ بين "مورد المثل" و"مضرب المثل" فإنه لن يجد أفضل من التصرفات الأخيرة لبعضهم..
"الباحث عن حتفه بظلفه".. "على أهلها جَنَتْ براقش".. "القشة التي قصمت ظهر البعير".. أمثلةٌ - مع أخوات لها كثيرات - حُقَّ لها أن تُضْرَبَ في مثل تلك التصرفات..
يبدو أن لحظة الحقيقة حانت أخيرا.. ويبدو أن تصرفات صاحبنا هذه ستنضم إلى آلاف الأدلة والبراهين التي تؤكد أن عاقبة الصلف والغرور مُهْلِكَةٌ مُرْدِيَةٌ..
يتحدث الجميع أن الرجلَ لم يعد نفسَ الرجل الذي كان قبل ثلاث أو أربع سنين.. خطابُه المتعالي ولهجته المتكبرة، ولغته الآمرة كانت محل استياء واسع من أُطُرِ أكبر ولايات الوطن وأهمها..
دعاهم ثم لم يجد من تشقيق الكلام والتشدق بالألفاظ - الذي يُجيده - ما يخاطبهم به سوى لهجةٍ آمِرَةٍ ونَبْرَةٍ مهددِّة، ولم يَسَعْهُمْ من وقته سوى دقيقتين لا أكثر..
هذا الْبَطَرُ والْكِبْرُ لا يتناسبان مع سابقة "بيع" بطاقات الانتساب إلى الحزب، التي أدت إلى نفور البسطاء ورقيقي الحال منه..
إن الكبر مع الْغَنَاءِ والكفاءة رذيلةٌ، فكيف إذا رافقه التقصير من كل وجه؟
سعى الرجلُ أخيرا - على وجه الإفساد - بين الرئيس وأغلبيته في الغرفة التشريعية الأولى، فتولى "كِبْرَ" تحريفِ مقاصد خطاب الرئيس وتقويله ما لم يقل، وَدَفَعَ بعضَ الوزراء إلى التنقيص منهم والافتراء عليهم..
وليته حين جنح إلى هذا المستوى الواطئ صَدَقَ في القول وأَقْصَدَ في الرمي.. لكن أَنَّى لـ"بائع بطاقات الانتساب" إلى الحزب أن يفعل؟
أَنَّى له أن يخبر الناس أن مجلس الشيوخ ليست له ميزانيةُ تسييرٍ، بل له مخصصات مالية أوجهُ صرفها محددة؟
أَنَّى له أن يخبرهم أن "القراءة الثانية" التي يقوم بها مجلس الشيوخ لمشاريع القوانين؛ تستدرك ما فات مجلسَ النواب وغاب عنه لأي سبب، ومن ثَمَّ تقومه وتصححه؟
أَنَّى له أن يبلغ من النُّبْلِ والشهامة أن يشهد على نفسه أن "وُزَرَاءَه" حين اتهموا المجلسَ بأنه "وكر للفساد"؛ كانوا أحقَّ الناس بورود المثل فيهم: "رمتني بدائها وانسلت"؟
وبعد أن ارتكب ما ارتكب وأفسد ما أفسد، ثم تراءت فرصةٌ لرَتْق الخلل وإصلاح ذات البين، كان المنتظر أن يَهْتَبِلَ الفرصة ويغتنمَ السانحة، فيعتذر عما بَدَرَ منه، ويحوزَ فضيلةَ الاعتراف بالخطإ.
لكنه ركب رأسه فـ"زاد الطين بَلَّةً"، ومال إلى بنيات الطريق، والتناجي بالإثم والعدوان، وعَقْدِ اجتماعاتٍ تؤخر ولا تقدم، وتفسد ولا تصلح، وتفرق ولا تجمع، وتضر ولا تنفع..
فحقيق بمادة الفساد هذه أن تُحسم، وبيد الحرابة أن تقطع، وبأصل الفتنة أن يستأصل..
أجزم أن بعض الناس قد يبادرني قائلا: إنك نسيت من الأمثلة التي يصلح إيرادها هنا:
أُعَلِّمُهُ الرِّمَايَةَ كُلَّ يَوْمٍ ** فَلَمَّا اشْتَدَّ سَاعِدُهُ رَمَانِي
فأسارع بدوري مجيبا: نعم، صدق من قال: اللهم اكفني شَرَّ أصدقائي، أما أعدائي فأنا كفيل بهم