لا شكك أنه من الصعب إطلاق أية صفة دقيقة على واقع حال الامة العربية الراهن. فهل يا ترى هو الانقسام المرير حول أقل ما يقسم من العوامل الضحلة دون ما هو الأكثر والأقوى مما يوحد من القواسم المتجذرة في عمق الكيان وتاريخه؟
· أم هو العجز البائس عن فهم متطلبات العصر إلى تطوير عوامل التوحد لبناء القوة الحديثة؟
· أم هو الجمود في قوالب الانحطاط الذي أصاب الأمة ذات مرة بعدما قادت العالم وعلمته أن يسلك سبيل العلم والعدل؟
· أم هو التخاذل أمام مستوجبات الوحدة أمام التكتلات العالمية والصراعات العقيمة على زعامات بلا روح أو رؤى قد ولى عهد مثلها في كل أرجاء المعمورة وأفل نجم إبهارها إيديولوجيات كانت أم متعلقة بالتنافس على الهيمنة بمفاهيم واعتبارات اجتماعية موغلة في القدم، وأخرى عقدية أساسها المهاترات الواهية والجدل العقيم، ومراميها التكفير ورفض الآخر وفرط عقد الأمة الواحدة؟
وإذا ما كانت كل واحدة من هذه الصفات واردة لوصف وضع هذه الأمة الصعب، فإن الذي لا ريب فيه وهو الأكثر تعبيرا منها جميعا عن سوء واقع حالها يتلخص في أن أرضها أصبحت مستباحة بكل معاني الكلمة وأنصع صورها حتى أصبح لكل من يريد موطئ قدم على أديمها.
وليس في القول أية مبالغة بإن الأمة العربية تعيش أسوأ الاوضاع وأقسى الظروف في الوقت الراهن وإن هذا الواقع المرير شمل كافة الاصعدة السياسية والاقتصادية والمجتمعية والتعليمية والإعلامية وفي ظل حالة الانفصام الحقيقي المستمرة بين ما يفعله الحكام وبين التوجهات والطموحات الإنسانية للشعوب. ولكن بالمقابل لا شك في أن الربيع العربي، بما صحبه من حريق هائل وقمع غير مسبوق وحروب أهلية، استطاع أن ينبه العقل العربي على ضرورة التحرك ضد تكريس الجهل الحضاري وشل إرادة الشعوب ولجمها عن المضي إلى رحاب التحرر من قيود الظلامية والتخلف وتكريس حكم البلادة.
لقد عانت من قبل دول أوروبا الغربية الاتحادية اليوم من حروب مريرة وصراعات دموية وتنافس بين الأباطرة والملوك والديكتاتوريين من ضباط الجيوش على الهيمنة، أكثر من أية قارة أخرى في العالم، لكنه بمجرد إعادة بناء مجتمعات هذه الدول الأوروبية على أسس سليمة سرعان ما أوصل شعوبها إلى قناعة بأهمية التكامل ومن بعد الاتحاد فيما بينها، فاستطاعت أن تجمع بوعي رفيع ومدنية فائقة بين الحكم الديمقراطي وبين تكامل قاري تجاوز صراعات الماضي ومعوقاته الواهية.
وهنا حيث نجحت الشعوب الأوروبية في تلازم الاتحاد والديمقراطية في الحاضر الذي ينعمون فيه بحرياتهم وبالعدالة الاجتماعية بعدما نبذوا معوقات الماضي وتوجهوا إلى مستقبل لا تخفى على كافة الصعد معالمه المضيئة تباينات الثقافة واللغة والتاريخ، أخفقت الأمة العربية التي تتقاسم لغة وتاريخا وتمتلك من الثروات ما لا تمتلك أية أمة أخرى.
أما وقد وصلت الأزمات المختلفة على امتداد الجغرافيا العربية أسوء أحوالها فإنها لم تكن إلا لتزيد الشعوب وعيا بواقع حالها وضرورة تغييره أسوة بأمم العالم الأخرى التي لقيت هي كذلك نصبا من مُر ماضيها ووعت ثم سعت إلى تغييره لما يلائم العصر، فنبذت الحروب وتوجهت إلى العلم في ظل الحكم التشاوري الذي يولي خيار الامة أمورَها ويكفل الحريات ويصون الحقوق ويفرض أداء الوجبات.
وهو الأمر الذي إن مازال بطيء التجسيد على أرض الواقع إلا أنه يتشكل في الأذهان بسرعة تسوقها متغيرات الأوضاع التي يرسمها تناقص ملحوظ في شدة الحروب الطاحنة وخفوت وتيرة الملاسنات الحادة ولين في المواقف الصارمة وفتور في التصعيد.
ولا شك أن هذا التوجه كفيل بأن يجعل من القمة العربية المقبلة أساسا تحاوريا جديدا سيتسم بلين جانب كل الأطراف وبرغبة صادقة في الوصول بالحوار إلى مقاصد تؤمن خلق قنوات التوافق على إنهاء العنف المدمر وتفتح فرص التوجه إلى التنازالات لصالح التهدئة. ومن هنا فإن نضج تجربة الحروب والتمزق يكون قد بدأ يعطي الإشارة بأن زعماء الأمة بدأوا يدركون حجم المؤامرة وأن التجربة المريرة يجب ان تعطي الأولوية للحوار الذي لا يقصي أحدا ويستمع إلى كل الآراء ويتبنى بالإجماع ذاك منها الذي يوطد السلام ويؤمن العدالة ويرفع وتيرة التنمية الشاملة لما فيه خير الأمة من الخليج إلى المحيط.