قال الله تعالى : " و لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا .. "
في الكثير من الأحيان يصاب بعض المتدينين بقدر من احتكار التدين ويكثر ذلك في صفوف العاملين للدين ، الذين منَّ الله عليهم بحظ من السبق إلى الدين و العمل له و الإنسان بطبعه ميال إلى التوجس و إلى الريبة من الجديد و في بعض الأحيان يجد ذاته في عمله الذي عايشه طويلا حتى يرى لنفسه مستوى من الاختصاص به .
و هذا المسلك ينبغي البعد به عن ساحة الدين و ميدان الاصلاح فليس الدين دين أحد فيقبل فيه من يشاء و يرفض من يشاء بل الدين دين الله تعالى " يجتبي إليه من يشاء و يهدي إليه من ينيب "
و لذلك على أهله أن يرحبوا بكل من أقبل عليه و أراد العمل له و يبتعدوا عن ظن السوء و التوجس الذي يجعلهم لا يثقون في غيرهم و لا يطمئنون لسواهم و هنا يذكرهم الله تعالى بحالهم " كذلك كنتم من قبل فمنَّ الله عليكم فتبينوا "
نعم كان حالكم كحال هؤلاء الذين تتوجسون منهم خيفة على الدين وتنتقصون صدقهم وها أنتم قد غير الله حالكم وهداكم و أرشدكم فَلِم تستبعدون أن يمنّ الله على هؤلاء؟ كما منّ عليكم و أن يهديكم كما هداهم و لذلك عليكم أن تتثبتوا في الحكم على هؤلاء -الجدد في نظركم- بظن السوء " يا يها الذين ءامنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا"، أي تثبتوا.
ويعظم الخطر و الخطأ حين يكون هذا التوجس و التردد من أجل حظوظ دنيوية و يكون الدافع الباطن له الخوف من منافسة هؤلاء في الامتيازات المادية و المعنوية التي يفتح الله بها على عباده من بسطة في المال أو الجاه أو التمكين و حينها يكون أهل السبق نسوا أنهم جاءوا للدين لا للدنيا و أن عطاء الله أوسع من الجميع "تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة".
إن الله تعالى يريد منا أن نجرد الدين من الأهواء والانتماء للاعتبارات التي لا يقيم الله لها وزنا، ففي بعض الأحيان يبتلى شخص بحرب الدين وقد يطول عمره في ذلك فيتحول الصراع معه من صراع مع سلوكه إلى صراع مع شخصه ويوم يهديه الله تعالى تجد بعض المؤمنين يصادر تدينه ونصرته للدين فعلى هؤلاء أن يسمعوا قول الله تعلى: "عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم".
وقد نزلت هذه الآية في رجال حملوا لواء الحرب على الإسلام أيامه الأولى وقادوا المعارك ضده كأبي سفيان بن حرب وخالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية رضوان الله عليهم، ولكن منّ الله عليهم بعد ذلك بالإسلام فرحب بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه وبوأوهم مكانتهم وأتاحوا لهم فرصة القيادة في الإسلام وكفّروا بذلك قياتهم في الكفر دون أن يكون في ذلك مساسا بمنزلة السابقن ولا خفضا من درجاتهم.
وما أبلغ قول الله تعالى: "والله قدير والله غفور رحيم".
فلا عجب من تحول هؤلاء من شدة الكفر وغاية العتو ونهاية الصدود عن الله تعالى إلى أضداد تلك الصفات، فالله قدير على تحويلهم وهدايتهم، ومهما عظمت أخطاؤهم السابقة فالله غفور يغفر الذنوب جميعا، رحيم يمن على من لا يستحق.
إن المتأمل لحال كثير من الناس يجد هذا الخلق المعوج والمسلك المشين حاضرا في حكمهم وتعاملهم فترى بعض العلماء والدعاة يتوجسون من كل طاقة جديدة يمنّ الله بها على الدعوة والإسلام وترى كثيرا من أهل النبوغ والبروز في أي مجال من مجالات الكمال البشري لا يقبلون أن يتقدم فيه غيرهم ولا أن يتصدر سواهم كأنهم ما خلقوا إلا له ولا خلق إلا لهم، وتجد بعض الجماعات العاملة للدين ممن غلبت عليهم الحزبية الضيقة يحتكرون الدين في منهجهم والأمة في جماعتهم وهم في نفس الوقت ينكرون على الظلمة احتكار السلطة واسم الدين.
وقد ثبت في سبب نزول هذه الآية أن ابن عباس رضي الله عنهما قال لحق المسلمون رجلا في غُنيمة فسلم عليهم فقتلوه وأخذوا غنمه فأنزل الله تعالى: "ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم...".
اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون إهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.