رمضان شهر الفرقان شهر الصيام والعطاء والبناء لمن يتدبر فيه القرآن (ح2) / د.محمد المختار دية الشنقيطي

يقول الحق جل وعلا:{ أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً}. من صور التدبر المأمور بها في التنزيل هنا: التفكر والتأمُّل في هذا القرآن المنزل من عند الله العليم الخبير، لهداية البشر وسعادة الحياة الدنيا والنجاة في الآخرة، والتبصُّر بما أودع الله في هذا الكون من آياته 

وآلائه، ليدرك المتدبر ويتبين أن كلام الله ليس من كلام البشر، وأنَّ من أهم وظائفه الإلهية وخاصيته التشريعية أنه يصدِّق بعضه بعضًا؛ وذلك لاتِّساق معانيه، ووضوح أحكامه، وقوة حجته وبراهينه، وأن ما يجهله البعض من أمره راجع إلى التقصير في فهمه، وعدم التبحُّر في علومه، وقِلَّة العلم بأسراره.
ومن معاني التدبر الكثيرة الأخرى: التدبر في مواعظ الله ونفوذ أحكامه في الأمم والمجتمعات، وتسجيل ذلك في القصص التي قصَّها الله علينا، والأمثال المضروبة لنا، وما حاق وحل بالأقوام المُكذِّبة من ويل وثبور ودمار وخراب وبوار؛ وذلك ليعلم الناس أنَّ لله حكمة تجري في خلقه وصنعه، وأنه جل وعلا عادل في أمره، عليم بخلقه، لا يُحابي الأقوام لأجل أنسابهم، وليعلموا أيضًا أنَّ العاقبة للمتقين، والسوء والخزي للكافرين، ويتأمَّلوا في سُنَّة الله الناظمة والمضطردة في خلقه على مرور الأزمان وتقلُّب الأحوال،{ ولن تجد لسنة الله تبديلا}{ ولا مبدل لكلمات الله}.
والمتدبر للقرآن في صلاة القيام في شهر الصيام المتأمِّل فيما يسمع من كتاب الله يَجد أنَّ الله دل خلقه على جميع أنواع التدبر المطلوبة، كالتدبر في معنى ما يتلفظ به المسلم من الآيات المتلوة، ثم التدبر في الزَّواجر والنَّواهي والأوامر الصادرة من لدنه - سبحانه - والذي يستلزم الاعتقاد والعمل.
ثم التدبُّر فيما وضعه الله في هذا القرآن من سياسة للعالم، وما اشتمل عليه القرآن من أحكام وأصول في إصلاح البشرية، والنَّظر إلى العلوم التي كشف عنها العلم الحديث، ومطابقة ما ظهر على أرض الواقع من علوم واكتشافات لما جاء به الإسلام من عند الله، وأن العقل الصريح يطابق الدِّين الصحيح .
ثم أيضًا التدبر في طريق الآخرة والتزوُّد لها، والتدبر في حال الدنيا وسرعة زوالها، إلى غير ذلك من معاني التدبر .
أنواع التدبر: للتدبر أنواع كلها مطلوبة تحصيلا وتأملاً من التالي للقرآن، وقد اشتمل القرآن الكريم على جميع هذه الأنواع، وأشار إليها ودل عليها، وحضَّ على إعمال الفكر والعقل في تأمُّلها وتدبرها، ومنها:
أولاً: تدبر الآيات المشهودة الدَّالة على وحدانية الله: وهي التي تسمَّى بالاتجاه الأفقي، وهذا النوع من التدبر هو الاستدلال بالآيات التي أودعها الله في الكون الفسيح، وما فيه من الآيات الظاهرة العجيبة، والصنع البديع، التي تدل على ربوبيَّة الله للعالم، وأنه يستحيل إيجاد مثل هذا النظام الدقيق من تلقاء نفسه، وأنه لا بُدَّ لهذا العالم من موجد عليم حكيم، ومن أعظم الآيات الظاهرة الباهرة التي يدعوا القرآن للنظر والتفكير فيها، خلق السموات والأرض، وما حوى من نجومٍ وأفلاك وأقمار ومجرات؛ قال تعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.
ومن الآيات الظاهرة الواضحة التي وضعها الله أمام نظر الإنسان- آية خلقه من العدم، وإنشائه منذ القدم، وهي من أكثر الآيات وضوحًا ودلالة على ربوبيَّة الله لخلقه؛ لأنَّها آية ظاهرة للعيان، واضحة لكل إنسان ألهمه الله النطق والبيان، بل هي داحضة لكل بطلان؛ قال تعالى:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}.
وقد نوع القرآن في الدلالة على هذه الآية الدالة على قدرة الله، وهي تأتي غالبًا في صورة الاستفهام التقريري؛ لتكون أقوى في الاعتبار، وأكثر في الاتعاظ، وأبلغ في التدبر والاستذكار؛ قال تعالى:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}.
ولما احتوته هذه الآية من معاني توجب التدبُّر في خلق الإنسان؛ وقد قال بعض الصحابة الأجلاَّء والأتقياء الأصفياء، وهو جبير بن مطعم:"سمعت النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- يقرأ في المغرب بالطُّور، فلما بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ}، قال: كاد قلبي أن يطير". قال تعالى:{ إن هذا القرن يهدي للتي هي أقوم} أقوم في دروب الحياة كلها.
من أحلى ما جاء من الكلام في تدبر القرآن في شهر الصيام ما نقله الشيخ خالد من أقوال للعلماء في  منهج  و قواعد وضوابط  تدبر القران، وقد فقالوا فيه إن أصل التدبر: التأمل والتفكر في أدبار الأمور وعواقبها. أي: فيما لا يظهر منها للمتأمل بادئ ذي بدء.
ثم استُعمل في كل تأمل، سواءً كان نظراً في حقيقة الشيء وأجزائه، أو سوابقه وأسبابه، أو لواحقه وأعقابه، والتدبر في الأمر: التفكير فيه، أي: تحصيل المعرفتين لتحصيل المعرفة ثالثة. وهو بمعنى قول بعضهم: إعمال النظر العقلي في دلالات الدلائل على ما نُصبت له، أي: تصرف القلب بالنظر في الدلائل. وهذا تفسير له بالتفكر.
وبعضهم يفرق بينهما باعتبار أن التدبر: تصرف القلب بالنظر في العواقب، وأما التفكر: فتصرفه بالنظر في الدليل. و عبَّر عنه بعضهم بأنه التفكر في عاقبة الشيء وما يؤول إليه أمره. وهو بمعنى قول من فسره بالنظر في أعقاب الأمور وتأويلات الأشياء. وهما تعريفان مقاربان .
ومعنى تدبر القرآن: قال مقاتل بن سليمان: هو التأمل في معانيه، وتحديق الفكر فيه، وفي مبادئه وعواقبه، ولوازم ذلك. وقال الزمخشري: هو تأمل معانيه وتبصر ما فيه، وقال: وتدبر الآيات: التفكر فيها، والتأمل الذي يؤدي إلى معرفة ما يَدْبُر ظاهرها من التأويلات الصحيحة والمعاني الحسنة؛ لأن من اقتنع بظاهر المتلو لم  يحل منه بكثير طائل، وكان مثله كمثل من له لقحه دَرُوْر لا يحلبها، ومهرة نَثُور لا يستولدها.
وقال القرطبي: هو التفكر فيه وفي معانيه. وقال الخازن: هو تأمل معانيه، وتفكر في حكمه، وتبصر ما فيه من الآيات. وقال أبو حيان: هو التفكر في الآيات، والتأمل الذي يفضي بصاحبه إلى النظر في عواقب الأشياء.
وقال ابن القيم: هو تحديق ناظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبره وتعقله. وقال السيوطي: وصفة ذلك: أن يشغل قلبه بالتفكر في معنى ما يتلفظ به, فيعرف معنى كل آية, ويتأمل الأوامر والنواهي, ويعتقد قبول ذلك؛ فإن كان مما قصَّر عنه فيما مضى اعتذر واستغفر, وإذا مر بآية رحمة استبشر وسأل, أو عذاب أشفق وتعوذ, أو تنزيه نزه و عظم, أو دعاء تضرع وطلب.
وقال الطاهر ابن عاشور: هو تعقب ظواهر الألفاظ ليعلم ما يَدْبُر ظواهرها من المعاني المكنونة والتأويلات اللائقة. وقال الميداني: هو التفكر الشامل الواصل إلى أواخر دلالات الكلم ومراميه البعيدة. وقيل: هو التفكر والتأمل لآيات القرآن من أجل فهمه، وإدراك معانيه، وحِكَمه، والمراد منه.
وقيل: هو تفهم معاني ألفاظه، والتفكر فيما تدل عليه آياته مطابقة، وما دخل في ضمنها، ومالا تتم تلك المعاني إلا به مما لم يُعَرِّج اللفظ على ذكره من الإشارات والتنبيهات، وانتفاع القلب بذلك بخشوعه عند مواعظه، وخضوعه لأوامره، وأخذ العبرة منه.
ويجمع ذلك: النظر إلى ما وراء الألفاظ من المعاني والعبر والمقاصد الأمر الذي يثمر العلوم النافعة والأعمال الزاكية. وإنما ذكرت هذه الجملة الأخيرة لأنه قد ورد عن جماعة من السلف تفسير التدبر بالعمل والامتثال وما إلى ذلك مما يقع في القلب ويظهر على الجوارح، ولا ريب أن هذا يكون أعلى مراتب التدبر,  وإلا فقد يحصل ببعض ذلك كما لا يخفى. وهداة أئمة التفسير لهم عبارات بيان متعددة لمعنى التدبر يوردنها متنوعة في اللفظ متحدة في المعنى عند تفسرهم لقول الله عز وجل:{أفلا يتدبرون القرآن} وقوله:{ ليدبروا آياته}.
قال ابن جرير: أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون مواعظ الله التي يعظهم بها في آي القرآن الذي أنزله على نبيه عليه الصلاة والسلام، ويتفكرون في حججه التي بينها لهم في تنزيله. وقال البغوي: أفلا يتفكرون في القرآن. وقال ابن الجوزي: ليتفكروا فيها.وقال القرطبي: أي: يتفهمونه. وقال الخازن: يتفكرون فيه وفي مواعظه وزواجره. وقال أبو حيان: أي: فلا يتأملون ما نزل عليك من الوحي ولا يعرفون عنه؛ فإنه في تدبره يظهر برهانه ويسطع نوره، ولا يظهر ذلك لمن أعرض عنه ولم يتأمله. وقال البقاعي: أي: يتأملون. وقال الشوكاني: أفلا يتفهمونه... وقال ابن عاشور: يتأملون دلالته... وبهذا نعلم أن كلامهم يدور على إعمال الفكر والنظر بالتأمل والتفهم في آي القرآن الكريم للتوصل إلى معانيه و مقاصده.
علاقة التدبر بالتفسير، والتأويل، والبيان، والاستنباط، والفهم: إن أصل مادة( التفسير) تدور على الكشف والبيان, يقال: فسَّر الكلام, أي: أبان معناه وأظهره, فهو إخراج الشيء من مقام الخفاء إلى مقام التجلي .
وأما في الاصطلاح: فهو علم يُبحث فيه عن أحوال القرآن العزيز من حيث دلالته على مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية. وبناء على ذلك يقال في العلاقة بين التفسير والتدبر: بأن بينهما ملازمة؛ وذلك أن التوصل إلى مراد الله تعالى من كلامه يحتاج إلى تدبر و نظر و تأمل, كما أن التدبر يتوقف على معرفة المعنى .
ثانياً: علاقته بالتأويل يأتي لمعنيين: الأول: بمعنى التفسير ومن ذلك قوله تعالى:{ سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً}،  وقال :{ (ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا}، وقوله:{ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله}. على أحد الأوجه في التفسير. فتأويل القرآن بمعنى تفسيره, وهو المراد بقوله -صلى الله عليه وسلم -في دعائه لابن عباس -رضي الله عنهما -:" وعلمه التأويل ".
وهكذا تأويل الرؤيا يأتي بمعنى تفسيرها كما في قوله تعالى :{  نبئنا بتأويله }.  وقوله : { وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث}. وقوله:{ ولنعلمه من تأويل الأحاديث}. وقوله:{ و ما نحن بتأويل الأحلام بعالمين}. وقوله:{ وعلمتني من تأويل الأحاديث}. وقوله:{ أنا أنبئكم بتأويله}. فهذا كله بمعنى تفسير الرؤيا.
الثاني: بمعنى ما يصير إليه الشيء في ثاني حال, فتأويل الخبر بوقوع المَخْبَر, ومن ذلك قوله تعالى:{ هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق...}. و قوله:{ بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله}.
وهكذا يعبر بـ (التأويل) في الرؤيا بمعنى تحقق الوقوع ومن ذلك قوله تعالى:{ وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي، كما ورد بمعنى العاقبة, ومن ذلك قوله تعالى:{ ذلك خير و أحسن تأويلا }، في موضعين من القرآن. وهكذا يُعبر بـ (التأويل) عن امتثال المأمور, ومن ذلك حديث عائشة رضي الله عنها: كان النبي -صلى الله عليه وسلم -يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده:" سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم أغفر لي" يتأول القرآن.
بعد ذلك أقول بأن التأويل له تعلق بالتدبر باعتبار الإطلاقين السابقين, وبيان ذلك: أن تعلقه به من جهة إطلاقه مراداً به التفسير  لا يخفى ؛ إذ القول فيه كالقول في التفسير . وأما وجه تعلقه بالتأويل إذا أُريد به المعنى الآخر: فإن ذلك يكون بالامتثال والعمل والتطبيق, وذلك من المعاني الداخلة تحت التدبر, إضافة إلى التفكر في ما يؤول إليه الإنسان, وما يقع في الدنيا والآخرة مما وعد الله به أهل طاعته و أهل معصيته.
ثالثاً: البيان : من بان الشيء : إذا اتضح و انكشف، هذا من حيث الجملة, ويتقيد معناه بحسب متعلقه, والمقصود هنا: ما يتعلق بالتدبر؛ وذلك بإطلاق البيان على ما يشرح به المجمل و المبهم و يكشف به عن المعنى, ومن ذلك قوله تعالى:{ ثم إن علينا بيانه}، القيامة . وقوله:{ لتبين للناس ما نزل إليهم }، النحل . والقول فيه بهذا الاعتبار كالقول في التفسير من جهة الملازمة بينه وبين التدبر.
رابعا: علاقة التدبر بالاستنباط: ترجع مادة (الاستنباط) إلى الاستخراج. قال ابن جرير رحمه الله:" وكل مستخرج شيئاً كان مستتراً عن العيون أو عن معارف القلوب فهو له مستنبط" ا.هـ
وبناء على ذلك: فإن الاستنباط من القرآن يكون بمعنى استخراج المعاني و الأحكام و ألوان الهدايات في العقائد و السلوك و غير ذلك. وهذا يكون نتيجة للتدبر كما لا يخفى.
خامساً: علاقة التدبر بالفهم: الفهم: قيل: تصور المعنى من اللفظ , وقيل: هيئة للنفس يتحقق بها ما يحسن، وبناء على ذلك فإن الفهم يكون نتيجة للتدبر, كما أنه يكون وسيلة لما وراء ذلك من المعاني الداخلة تحت التدبر, فإن من التدبر ما لا يتم إلا بعد الفهم. وبهذا نعلم أن بين التدبر والفهم ملازمة ولا يخفى أن الناس يتفاوتون في الفهم تفاوتاً كبيراً, لكن كلٌ يحصل له من التدبر بحسبه.
أركان التدبر: يقوم التدبر على أركان ثلاثة: الأول: المُتَدَبِّر: وهذا لابد فيه من تحقق شروط وانتفاء الموانع, كما يلاحظ فيه توفر جملة من الآداب المكملة المعينة على التدبر ليكون المحل قابلاً.
الثاني: وهو الكلام المُتَدَبَّر: ولا يخفى أن القرآن الكريم بالغ التأثير في النفوس, كما أنه ميسر للفهم, ولكن إذا وجد المحل القابل, لكن لا ننكر أن القرآن يشتمل على العقائد و الأحكام والقصص والأمثال والكلام على الدنيا والآخرة, وأهوال القيامة, فقد تكون بعض هذه القضايا أكثر تأثير في بعض الناس, كما يكون غيرها أعمق تأثيراً لدى آخرين بحسب مقاصدهم وعمق أفهامهم و لطافة نظرهم.
الثالث: وهي عملية التدبر نفسها, وذلك يطلب فيه جملة أمور تتعلق بالقدر المتلو, وطريقة التلاوة, و وقتها وما إلى ذلك؛ ولذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:" لم يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث ". رواه أبو داود والترمذي.
أنواع تدبر القرآن: النوع الأول: تدبره لمعرفة صدق من جاء به, وأنه حق من عند الله تعالى. وذلك أن الله تعالى نعى على المنافقين إعراضهم عن طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم -فقال:{ ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً }.
قال ابن القيم رحمه الله:" ومن شهادته أيضاً ما أودعه في قلوب عباده من التصديق الجازم واليقين الثابت والطمأنينة بكلامه و وحيه فإن العادة تحيل حصول ذلك بما هو من أعظم الكذب و الافتراء على رب العالمين والإخبار عنه بخلاف ما هو عليه من أسمائه و صفاته بل ذلك يوقع أعظم الريب والشك وتدفعه الفطر و العقول السليمة كما تدفع الفطر التي فطر عليها الحيوان الأغذية الخبيثة الضارة التي لا تغذى كالأبوال والأنتان فإن الله سبحانه فطر القلوب على قبول الحق والانقياد له و الطمأنينة به الحصن إليه ومحبته و فطرها على بغض الكذب و الباطل و النفور عنه والريبة به و عدم السكون إليه ولو بقيت الفطر على حالها لما آثرت على الحق سواه ولما سكنت إلا إليه و لا اطمأنت إلا به ولا أحبت غيره ولهذا ندب الله عز وجل عباده إلى تدبر القرآن فإن كل من تدبره أوجب له تدبره علما ضروريا ويقيناً جازما أنه حق وصدق بل أحق كل حق وأصدق كل صدق وأن الذي جاء به أصدق خلق الله وأبرهم و أكملهم علما وعملا ومعرفة كما قال تعالى:{ أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} .
وقال تعالى:{ أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها}، فلو رُفعت الأقفال عن القلوب لباشرتها حقائق القرآن واستنارت فيها مصابيح الإيمان وعلمت علما ضروريا يكون عندها كسائر الأمور الوجدانية من الفرح والألم والحب والخوف أنه من عند الله تكلم به حقاً وبلغه رسوله جبريل عنه إلى رسوله محمد- صلى الله عليه وسلم- فهذا الشاهد في القلب من أعظم الشواهد وبه احتج هرقل على أبي سفيان حيث قال له: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ فقال: لا !! فقال له: وكذلك الإيمان إذا خالطت حلاوتهُ بشاشة القلوب لا يسخطه أحد.
وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى في قوله:{ بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم}، وقوله:{ ويرى الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به}،. وقوله:{ ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق}. وقوله:{ أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى}. وقوله: {ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب}.
وهذا ما يعني أن الآية التي يقترحونها لا توجب هداية بل الله هو الذي يهدي ويُضِل، ثم نبههم على أعظم آية وأجلها وهي طمأنينة في قلوب المؤمنين بذكره الذي أنزله فقال: {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله}.أي بكتابه وكلامه وقال:{ ألا بذكر الله تطمئن القلوب }. فطمأنينة القلوب الصحيحة والفطر السليمة به وسكونها إليه من أعظم الآيات، إذ يستحيل في العادة أن تطمئن القلوب وتسكن إلى الكذب والافتراء الباطل"ا.هـ.
ومن ما يكسبه التالي للقرآن المتدبر له هو: 1-اتساق معانيه. 2-ائتلاف أحكامه، 3-وذلك بتأييد بعضه بعضاً بالتصديق و شهادة بعضه لبعض بالتحقيق فإن ذلك لو كان من عند غير الله لاختلفت أحكامه, وتناقضت معانيه, وأبان بعضه عن فساد بعض. قال ابن عباس رضي الله عنهما:" أفلا يتدبرون القرآن فيتفكرون فيه, فيرون تصديق بعضه لبعض, وما فيه من المواعظ والذكر والأمر والنهي, وأن أحداً من الخلائق لا يقدر عليه".
4.  صدق ما تضمنه من الإخبار عن الغيوب الماضية والمستقبلة. ومن ذلك: كشف خبايا و خفايا المنافقين و إظهار ذلك, وهم يعلمون صدق ما أخبر به عنهم.
5.   ما حواه من ألوان الأدلة والبراهين التي يخضع لها كل منصف مريد للحق متجرد من الهوى .
6.   فصاحته وإعجازه للإنس والجن, عربهم و عجمهم. وهذه سمة لا تفارقه من أوله إلى آخره, فهو على كثرة سوره وآياته, وطول المدة التي نزل فيها لا تجد فيه تفاوتاً و لا خللاً في موضع واحد, وهذا لا يتأتى للبشر مهما بلغت فصاحتهم .
7.   ما اشتمل عليه من أنواع الهدايات التي تشهد لصحتها العقول –فيما للعقل مجال لإدراكه-وتوافق الفطر السليمة, فهو يدعو إلى كل معروف وخير, وينهى عن كل منكر وشر, فلا تجد فيه ما يجافي الحقيقة والفضيلة, أو يأمر بارتكاب الشر والفساد, أو يصرف عن الأخلاق الفاضلة.
النوع الثاني : تدبره للوقوف على عظاته, والاعتبار بما فيه من القصص والأخبار, وتعقل أمثاله المضروبة, وما اشتمل عليه من الوعد والوعيد, والترغيب والترهيب؛ من أجل أن يرعوي العبد فيستدرك ما وقع له من تقصير, ويزداد من الإقبال والتشمير في طاعة الله تعالى.
النوع الثالث : تدبره لاستخراج الأحكام منه, سواء كان ذلك مما يتصل بالعقائد, أو الأعمال المتعلقة بالجوارح, أو السلوك؛ إذ الأحكام تشمل ذلك كله بمفهومها الأوسع.
النوع الرابع : تدبره للوقوف على ما حواه من العلوم والأخبار والقصص, وما ورد فيه من أوصاف هذه الدار, و ما بعدها من الجنة أو النار, وما وصف الله  تعالى فيه من أهوال القيامة ونهاية الحياة الدنيا, وأوصاف المؤمنين والكافرين بطوائفهم, وصفات أهل النفاق, بالإضافة إلى الأوصاف المحبوبة لله تعالى, والأوصاف التي يكرهها... إلى غير ذلك مما يلتحق بهذا المعنى.
النوع الخامس : تدبره للوقوف على وجوه فصاحته وبلاغته وإعجازه, وصروف خطابه, واستخراج اللطائف اللغوية التي تستنبط من مضامين النص القرآني.
النوع السادس : تدبره للتعرف على ضروب المحاجة والجدال للمخالفين, وأساليب الدعوة للناس على اختلاف أحوالهم, وطرق التأثير على المخاطبين, وسُبل الإقناع التي تضمنها القرآن الكريم.
النوع السابع : تدبره من أجل الاستغناء به عن غيره سوى السنة فإنها شارحة له. نقل ابن القيم عن الإمام البخاري قوله:" كان الصحابة إذا جلسوا يتذاكرون كتاب ربهم وسنة نبيهم، ولم يكن بينهم رأي ولا قياس، ولم يكن الأمر بينهم كما هو في المتأخرين: قوم يقرؤون القرآن ولا يفهمونه، وآخرون يتفقهون في كلام غيرهم ويدرسونه، وآخرون يشتغلون في علوم أخرى وصنعة اصطلاحية، بل كان القرآن عندهم هو العلم الذي به يعتنون حفظاً وفهماً وتفقهاً".
وقال ابن تيمية: وأما في باب فهم القرآن فهو- أي: قارئ القرآن – دائم التفكر والتدبر لألفاظه، واستغنائه بمعاني القرآن وحِكَمِه عن غيره من كلام الناس، وإذا سمع شيئاً من كلام الناس وعلومهم عرضه على القرآن؛ فإن شهد له بالتزكية قبله وإلا رده"ا.هـ
الثامن : تدبره من أجل تليين القلب به وترقيقه، وتحصيل الخشوع. قال تعالى:{ الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد}.
وقال تعالى:{ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون}. وقال تعالى:{ ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله و ما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثيرٌ منهم فاسقون}. وقال تعالى:{ قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخروا للأذقان سجداً  ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا مفعولا  ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا}. الإسراء . وأخبار النبي- صلى الله عليه وسلم – في ذلك ، وأخبار أصحابه مشهورة لا تخفى .
التاسع : تدبره من أجل الامتثال و العمل بما فيه من الأوامر، واجتناب النواهي. وعن ابن مسعود رضي الله عنه في بيان المراد بقوله تعالى:} يتلونه حق تلاوته} البقرة. قال:" والذين نفسي بيده، إن حق تلاوته أن يحل حلاله، ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزله الله ". وعن عكرمة : يتبعونه حق إتباعه بإتباع الأمر والنهي، فيحلون حلاله ويحرمون حرامه ويعملون بما تضمنه.
وقال الحسن: إن هذا القرآن قد قرأه عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله، وما تَدبُر آياته إلا بإتباعه، وما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: لقد قرأت القرآن فما أسقطة منه حرفاً، وقد – والله – أسقطه كله، ما يُرى القرآن له في خُلق ولا عمل، حتى إن أحدهم ليقول: إني لأقرأ السورة في نَفَس !! والله ما هؤلاء بالقراء ولا العلماء ولا الحكماء ولا الوَرَعَة متى كانت القراء مثل هذا ؟ لا كثر الله في الناس أمثالهم" .
وبهذا نعلم أن تدبر القرآن يتنوع بحسب تنوع مطالب المتدبرين, وقد قال الشنقيطي -رحمه الله :"ومعلوم أن كل من لم يشتغل بتدبر آيات هذا القرآن العظيم أي: تصفحها وتفهمها وأدرك معانيها والعمل بها فإنه معرض عنها، غير متدبر لها، فيستحق الإنكار والتوبيخ المذكور في الآيات إن كان الله أعطاه فهما يقدر به على التدبر وقد شكا النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى ربه من هجر قومه هذا القرآن، كما قال تعالى:{ وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا}. وبذالك تعلم-أيضاً-ما يقع للناس من التفاوت العظيم في باب التدبر، فمن مقل ومكثر
وفي هذا المعنى يقول الحافظ ابن القيم رحمه الله:"والمقصود تفاوت الناس في مراتب الفهم في النصوص، وأن منهم من يفهم من الآية حكماً أو حكمين، ومنهم من يفهم منها عشرة أحكام أو أكثر من ذلك، ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرد اللفظ دون سياقه ودون إيمائه وإشارته وتنبيهه واعتباره، وأخص من هذا وألطف ضمه إلى نص آخر متعلق به فيفهم من اقترانه به قدرا زائداً على ذلك اللفظ بمفرده، وهذا باب عجيب من فهم القرآن لا يتنبه له إلا النادر من أهل العلم، فإن الذهن قد لا يشعر بارتباط هذا بهذا وتعلقه به، وهذا كما فهم ابن عباس من قوله: { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا }مع قوله:{ والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين}،أن المرأة قد تلد لستة أشهر " ا.هـ.

18. يونيو 2016 - 14:54

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا