كنت دائما مثل غيري من المواطنين البسطاء استمع أسبوعيا إلى مجلس الوزراء والتعيينات والمراسيم والقرارات من باب الفضول..
غير أنني في الآونة الأخيرة وبقدرة قادر صادقت الدولة على مراسيم كانت تشغلني وتؤرقني منذ عقود...
الأول مشروع قانون يقضي بإعادة تنظيم شهادة الباكالوريا الوطنية بشكل يسمح
بتعزيز مكانة التربية الإسلامية المكانة اللائقة بها في النظام التربوي عموما، وفي امتحان الباكالوريا خصوصا... بعد أن حذفت وأهملت بقصد أو بغير قصد.. وقد كتبت في ذالك مقالا بعنوان:عندما تنتشل الدولة مادة التربية الإسلامية من جديد!! اضغط الرابط:
http://aqlame.com/article29614.html
والثاني: مشروع مرسوم يقضي بإنشاء مجلس أعلى للبحث العلمي والابتكار..
وهو المشروع الذي هلل له الكثير من المثقفين والباحثين في الداخل والخارج و قد اشتغلت على هذا الموضوع مع بعض الزملاء في السنوات الماضية محاولين بذالك خلق فضاء للبحث العلمي والابتكار كمكمل لجائزة شنقيط واقترحنا له تسميات مثل أكاديمية شنقيط للعلوم . أو المرصد الموريتاني للعلوم والتكنولوجيا...غير أن أعمالنا لم ترى النور...للأسف...
وقد كتبت بعد ذالك مجموعة من المقالات والبحوث تترجم تلك الأعمال مثل: العقول الموريتانية المهاجرة!!.. ومأساة المثقفين والمبدعين في موريتانيا!!........ الرابط:
http://www.alakhbar.info/all/10450-2015-06-15-21-21-56.html
ثقافة التحصيل بين الشناقطة الأوائل والشناقطة الجدد, وهل ساهم المتقف الموريتاني في القضاء عليه؟؟!......الرابط:
http://www.mushahed.net/vb/showthread.php?t=26553
غير أنه استوقفتني فقرات في مشروع القانون ذات أهمية بمكان: ،وهي: خضوعه للوزير الأول يحيى ولد حدمين وبرعاية من رئيس الجمهورية محمد ولد عبد العزيز ..
لكن هذه الفقرة (أعضاءه وزراء في الحكومة).. لم أفهم المقصود منها هل هم برتبة وزراء؟ أم أن الوزراء أعضاء تلقائيا في المجلس؟
على كل حال تخوفنا أن يتم تيعين الأعضاء من غير المؤسسة العلمية والنخب المثقفة مثل كثير من المجالس التي أنشأتها الدولة ومازالت تبارح مكانها!!
فتسمية: مجلس أعلى للبحث العلمي والابتكار, يقتضي الدراسة والتحري ووفرة الإنتاج العلمي لأعضاء هذا المجلس..
إن تاريخ البشر يقول إن عهود الأزمات الاقتصادية والاجتماعية هي عهود المعالجات العملية لتلك الأزمات نفسها، إذ تنهض لها العقول المفكرة، محللة، معللة، وهكذا كلما عصف التاريخ بالأحداث الشديدة والاضطرابات المدوية قذف التفكير الاجتماعي الواعي بالآثار الفكرية الضخمة.
ومجتمعنا اليوم بأمس الحاجة إلى هذه العقول لتشخيص المجتمع الذي وجدنا أنفسنا فيه، وكما يقال إذا تزاحمت العقول خرج الصواب..وفي هذا المجال لابد أن نرجع في عجالة إلى البيئة التي أوجدت هذا العقل؛
فعلى الصعيد السياسي كان أبرز ظاهرة في هذا الصدد هو خلو البلاد من سلطة مركزية تطبق الشرع وتدبر أمور الناس، ويتحاكم إليها الخصوم في الوقائع، فلم تعرف البلاد الشنقيطية بعد العهد المرابطي أية سلطة مركزية ولا نظام في الحكم حتى نهاية العقد السادس من القرن العشرين عندما أعلن عن دولة الاستقلال تحت اسم الجمهورية الإسلامية الموريتانية في 28 نوفمبر عام 1960م
وهذا ما يسمح بالقول أن التاريخ السياسي للبلاد أمتاز بسمة من البداوة يعززها غياب للسلطة المركزية، فكان ذلك دافعا إلى صياغة جملة من الأسماء تلح في معظمها على وصف هذه الأرض بالخروج على السلطة والحكم والابتعاد على الخلافة والنظام، ومن هذه الأسماء "البلاد السائبة" وقد تحدث الشيخ" محمد المامي" عن خلوها من مقومات الملك والسلطان كالدرهم المسكوك والأمير المطاع يقول:
" هي البلاد التي لا حكم فيها ولا دينار ولا سلطان بادية في فترة من الأحكام بين المملكين البوصيابية في الجنوب والإسماعلية في الشمال"،
ولاشك أن مسألة السيبة أو التسيب كان لها تأثير كبير على أوضاع البلاد السياسية والاجتماعية، فلعلها هي التي حملت علماء الشرع على أن يكيفوا الكثير من الأحكام البدوية وفق النموذج القائم فاجتهدوا قدر الممكن والمتاح في المصالح والمقاصد ...
ورغم هذا التسيب فإن الثقافة الموريتانية استطاعت أن تفرض للمثقفين الاحترام والتبجيل في ظل مجتمع لم تكن فيه سلطات يأوي إليها المظلوم.
وهذه الثقافة لم تظهر دفعة واحدة بل تبلورت عبر مراحل ومجهود أثقل كاهل هؤلاء العلماء الأفذاذ في تحصيل دؤوب عن طريق قوافل الحج التي كانت تجلب الكتب من الحجاز ومصر وبلاد المغرب العربي وعن طريق الرحلات العلمية التي كان يقوم بها البعض بحثا عن الكتب و الورق فقظل علماء الشناقطة يراسلون نظراءهم في البلاد العربية ويسألونهم عن نوادر المخطوطات وأماكن وجودها ،فكانوا يطلبون المخطوطات من السلاطين والملوك ويسافرون إليهم من أجل الحصول عليها. وقد أهدى سلطان المغرب لإبن رازكة مكتبة عاد بها من المغرب كما عاد الشيخ سيديا من رحلته إلى مراكش بمكتبة كبيرة وقد رحل الشيخ محمد اليدالي بن سعيد إلى أغادبر وعاد ببعض الكاغد الشاطبي وازدهرت سوق المخطوطات في بلاد شنقيط التي اهتم أهلها بالكتاب واشتروه بأثمان غالية،فقد اشتري" موهوب الجليل شرح مختصر خليل" للحطاب بفرس عتيق!!، كما أشتري القاموس المحيط بعشرين بعيرا
وانتشر نساخ المخطوطات الذين هم بمثابة دور للنشر وتنافسوا في استنساخ المخطوطات وجلب نوادرها، فكان ذلك ضمانة لبقاء هذه المخطوطات ونشرها في زمن لم تظهر فيه وسائل الطباعة الحديثة...
هذه شذرات من قصة ثقافتنا وماضينا المجيد، تتجسد في حب اقتناء الكتاب ومجالسته، لكن التاريخ لا يكتبه الأجداد، ولا يتحرك على الأرض طبقا للأماني والأقوال في مجتمع فقد فعاليته وفقد معها قدرته على قراءة الأحداث الماضية منها والجارية، فضلا عن المستقبلية وتحول إلى ظاهرة صوتية تقول ما لا تفعل، وتسمع فلا تدون، وإن هي دونت فلن تقرأ، لأنها هجرت التحصيل العلمي...
في عصرنا الحاضر أخذت منابع القوة، تحول مجاريها نحو مجرى منبع واحد هو ينبوع (العلم). بمعنى أن القوة الغاشمة، لم يعد بإمكانها أن تحقق ذاتها على نحو واضح ومقبول من غير (العلم) إذ أن عليها أن تتخذ منه ظهيرا أو أساسا أو ستارا، وهذا ضاعف من مشكلات الأمم التي لم تنل من العلم إلا القليل، وجعل هامش المناورة أمامها محدودا.
المال في زماننا هذا هو المحور الرئيس الذي يدور حوله الكثير من مفردات التقدم المادي اليوم.
العلم اليوم ليس شيئا موازيا للمال كما كان الشأن في الماضي. وإنما هو مصدر للمال والثروات العظيمة فمن خلال التقدم المعرفي وتطبيقاته المذهلة، تضاءلت مصادر الثروة الأخرى، الزراعة، الرعي، الثروات الطبيعية والجهد العضلي...
بل صار أداء هذه المصادر والأوعية على نحو جيد في تحسن نوعية الحياة مرتبطة بقيامها على أسس علمية متينة يقول (ثورو خبير الاقتصاد الأمريكي الجنسية المرموق):
إن ثراء الأفراد والبلدان لم يعد يعتمد على نفس العناصر التي كانت سائدة في السابق، ففي السابق كان توفر الموارد الاقتصادية أهم عنصر في المعادلة الاقتصادية، وفي القرن الحادي والعشرين ستصبح قوة العمل والتعليم هما السلاح التنافسي الأول، ولن تعتمد الميزة التنافسي على ثروات الموارد الطبيعية، إذ أنه يعتقد على نحو عام أن الصناعات الرئيسية للعقود القادمة هي الإلكترونيات الدقيقة، والتقنية الحيوية وصناعات المواد الجديدة، والطيران المدني، والاتصالات وأجهزة الربوت المزودة بأجهزة القطاع والتشكيل، الحاسبات الآلية والبرامج).
وهذه كلها صناعات المقدرة العقلية، وأي منها يمكن القيام به في أي مكان على وجه الأرض، والموقع الذي ستقام فيه، يتوقف على من يستطيع تنظيم المقدرة العقلية من أجل السيطرة عليها، في القرن من صنع الإنسان.
إن المعرفة التي بحوزتنا هي الوسيط الذي ندرك من خلاله الوجود المادي والمعنوي، والواقع التاريخ والواقع المعيش وهذا الوسيط يتم تطويره عبر الخبرة البشرية. وعبر الكشوف والبحوث المتجددة...
فهل يكون هذا المجلس العلمي أولى لبنات العلم والمعرفة في موريتانيا الجديدة؟
إن أحد مقاييس التحضر المهمة اليوم يكمن في مدى سيطرة الناس على بيئاتهم الاجتماعية والطبيعية، ومدى قدرتهم على استيعاب سنة التغيير، والتلازم معها. وحركة البحث العلمي في معظم مجالات الحياة تستهدف هذه المسألة على وجه التحديد...
وهنا أرى لزاما علينا أن نعرض للنخبة المفكرة في هذا البلد والتي نلاحظ أن شريحة واسعة منهم ارتبطت بالمناهج التعليمية والمقررات الدراسية ومختصراتها وقتلت لديهم روح البحث وحرمتهم من المطالعة خارج المنهاج وكرهت إليهم القراءة والكتابة، حيث حصرت الهدف منهما بالامتحان والشهادة تنتهي الحاجة إليهما ونبدأ القطيعة معهما بالنجاح في الامتحان وتحصيل الشهادة...
وأخرى اقتنصتها وسائل الأعلام والمعلومات السريعة، بما تملكه من جاذبية وسائطها المتعددة في الصوت والصورة والحركة، فآثروها على تحصيل العلوم والمعارف، وسلموا أخيلتهم وأوقاتهم لها، وفضلوا التحول إلى متلق يستمع ويشاهد مسترخيا على أريكته، يتجرع ويحتسى كؤوس الشاي المنعنع مع ما يقدم له من دون كبير تدخل أو اختيار...
آثروا ذلك على معاناة القراءة الجادة وما تتطلبه من تركيز ووعي، فتسطحت الثقافة ونتج عن ذلك داء الأمية الثقافية التي أضرت بحركة النقد، وحدت من تداول الأفكار وأدت إلى ركودها، فضمر الإبداع وتحجرت العقول، وغاصت الثقافة في المياه الآسنة،..
أما الفئة الباقية فهم مجموعات تحكم فيها الفكر الجمعي للمجتمع الذي لا يسمح عادة بالخروج عليه لأن ذلك يعتبر إيذانا بتخريب روحه الجماعية التي هي المصدر لتلاحمه الهش، فسيطر على هؤلاء الانشغال ببيان الانجازات التي حققها عظماؤها بدل البحث عن وسائل تمكن من تطوير ما قدم الأجداد.
وما أعنيه بالنقاش هو النقد البناء لأنه مظهر من مظاهر استيقاظ الوعي: أي وعي الوعي بذاته، وقدرته على تجاوز النماذج الشائعة، والعودة إلى الأصول والأهداف الكبرى في كل المسائل التي تحتاج إلى إعادة نظر.
وأهمية النقد تكمن في أننا بشر نصيب ونخطئ، والجميع يعترف بذلك، لكن سلوكنا لا يترجم ذلك الاعتراف..
فالذين يمارسون النقد يلقون الكثير من المشكلات مما دفع جل الناس إلى إيثار الصمت، و تجاوزه بعضهم إلى تزيين الخطأ وتلميعه، مما جعل المشكلات تتراكم، وتفرخ، وتصبح أشبه بأوبئة مستوطنة...
إن كثيرا من الأخطاء والخطايا التي نقع فيها، ليس مصدرها الجهل، وإنما مصدرها الهوى والرغبة في تحقيق المصالح الخاصة، مما يعنى أن تكرارها هو المتوقع، نظر لديمومة أسبابها. والذي يساعد على التخفيف من تكرارها، هو الاستمرار في نقدها بشتى الوسائل وشتى الطرق، فالأخطاء. لا تتبدى دائما للعيان، ولا تتلبس بلبوس واحد، مما يعنى ضرورة الاستمرار في كشفها ومواجهتها.
ا إن الثقافة بمعناها الواسع، تشمل جميع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميز مجتمعا بعينه أو فئة اجتماعية بعينها، مثل نظم القيم والتقاليد والعادات، ومثل الحقوق الأساسية إلى جانب الفنون والآداب وطرائق العيش. وتأسيسا على هذا التعريف فان الثقافة الموريتانية بسبب ظروفها وملابساتها ـ لم تخل من سلبيات أن للحاضر تجاوزها:.
آن لنا أن نبدع ثقافة تستجيب لمتطلبات عصرنا وطموحنا-
. آن لثقافتنا أن لا تظل الماضي الأعزل في عالم الدول والأمم والقارات-
_ آن لثقافتنا أن لا تظل ثقافة تنتظر فتحا خارقا أو "كرامة" في عصر أخص خصائصه التطور العلمي والتقني القائمان على السببية العلمية وعلى الإرادة الإنسانية الفاعلة !!!
ويبدو أن الدولة الآن تسير في الاتجاه الصحيح بعدما تركت بصمتها على تدريس مادة التربية الإسلامية.. فهل تفعلها في المجلس الأعلى للبحث العلمي والابتكار؟!