يعرف عصرنا اليوم ظاهرة هدامة تتمثل في السعي إلى الالتفاف على أحكام الشرع المحكمة الثابتة، بحجة أنها لم ترد في القرآن، أو أنها معارضة لظاهره أو أنها وردت بأخبار آحاد لا تقوم بها الحجة، وهي شبهات باطلة وحجج داحضة سنعطي بإذن الله وتوفيقه الأدلة القاطعة على بطلانها:
أولا: السنة مصدر تشريع مستقل
يتباكى بعض الكتاب مما يسميه هجر القرآن إلى السنة، ممتعضين من حجم الأحكام أو الأخبار المستندة إلى صحيح السنة مما لا يرون له سندا من القرآن، وقد غفلوا عن أن القرآن هو الذي منح حق التشريع استقلالا للنبي صلى الله عليه وسلم، فهم حين يحيدون عن ذلك يصيرون مكذبين للقرآن جاحدين به، فيقعون فيمت فروا منه وهو هجر القرآن، ذلك أن عشرات الآيات أثبتت للنبي صلى الله عليه وسلم وجوب الطاعة في كل شأنه قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)} (سورة المائدة) وقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)} (سورة النساء) وفي الآيتين لطيفة هي التنبؤ بأن هناك من سيتولى عن طاعة الرسول استقلالا، وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)} وقال { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} (سورة الأحزاب) وحذر القرآن من مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) ثم ذهب إلى الحكم بنفي الإيمان عن من لا يرضى رضى لا تلجلج فيه بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) } (سورة النساء) فثبت من هذه النصوص أنما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم هو مما شرعه الله. وهكذا تلقى المسلمون أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته كما تلقوا إبلاغ عن ربه في قرآنه وكانت تفاصيل الإسلام في عباداته ومعاملاته وعقوباته كلها مروية بالسنة كأعداد ركعات الصلاة ومقادير وأنواع ما تجب فيه الزكاة وما ما يحل ويحرم من البيوع والأنكحة.
ثانيا- الجمع واجب متى ما أمكن
لا ريب في أنه إذا تعارضت السنة والقرآن تعارضا حقيقيا فإن القرآن يقدم ترجيحا للأقوى، لكن ما يريد بعض الكتاب اليوم تصويره على أنه تعارض بين القرآن والسنة ليس من التعارض في شيء إذ التعارض هو أن يختلف الخطابان المستويان في الدلالة المتواردان على موضوع واحد، فإذا اختلف الموضوع فلا تناقض، كما لا تناقض إذا اختلفت دلالات الخطابين بأن كان أحدهما عاما والآخر خاصا أو أحدهما مطلقا والآخر مقيدا، إذ يمكن الجمع بتخصيص العام وتقييد المطلق، وذلك من جملة البيان المذكور في قول الله تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)} (النساء) ومن أمثلة ذلك مسألة الرجم فإن لفظ الزاني في آية النور {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)} لفظ عام ولفظ المحصن الوارد في الأحاديث لفظ خاص فتعتبر الأحاديث مخصصة للآية وبيانا للسبيل المذكور في قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)} (سورة النساء) بحديث عبادة بن الصمت عند مسلم وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم: « خذوا عنى خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفى سنة والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» وما في معناه من الأحاديث، ومن أمثلته أيضا تحريم جمع المرأة على عمتها أو خالتها" الثابت في صحيح مسلم وغيره تقييدا لإطلاقه تعالى {وأحل لكم ما وراء ذلكم} (سورة النساء الآية 24) وبذلك يعمل بالدليلين فيطاع الله ورسوله كما أمر.
ثالثا- حجية خبر الواحد
من شر ما أصبح يتداول اليوم في ساحة الفكرية أن المسلمين غير ملزمين إلا بما كان قطعي الدلالة قطعي الورود، وهي قاعدة منافية للشرع والعقل، فقد وقع إجماع العلماء وجرت عادة العقلاء على العمل بالظن (وهو ما غلب على الظن صدقه) الذي يفيده خبر الواحد ومن خالف في ذلك كإبراهيم بن إسماعيل بن علية وأبي علي الجبائي لم يأت بما يقاوم الأدلة التي نذكر منها:
1- لم يبعث الله بنص كتابه إلى أغلب الأمم إلا نبيا واحدا فلو كان خبر الواحد لا يوجب الظن الموجب للعمل لم تقم الحجة عليهم، وإذا قال قائل إن الأنبياء يؤيدون بالمعجزات قلنا إن المعجزة إنما تكون بعد التحدي فما قبله هو إخبار واحد، ولو أن أحدهم كذب نبيا فمات قبل المعجزة هل يمكن أن يقال إنه لم تقم عليه الحجة؟
2- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)} (سورة الحجرات) قال القرطبي: "في هذه الآية دليل على قبول خبر الواحد إذا كان عدلا، لأنه إنما أمر فيها بالتثبت عند نقل خبر الفاسق" ج 16 ص312.
3- بعث النبي صلى الله عليه وسلم رسله إلى الأمم واحدا واحدا إلى كل ملك، فإذا قلنا إن خبر الواحد لا يثبت الحجية فقد نفينا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أبلغ الرسالة إليهم.
4- يقول الرازي: العمل بخبر الواحد الذي لا يقطع بصحته (يعني أنه يفيد الظن فقط لا اليقين) مجمع عليه بين الصحابة فيكون العمل به حقا إنما قلنا إنه مجمع عليه بين الصحابة لأن بعض الصحابة عمل بالخبر الذي لا يقطع بصحته (يعني دائما أنه يفيد الظن فقط لا اليقين) ولم ينقل عن أحد منهم إنكار على فاعله وذلك يقتضي حصول الإجماع ثم ساق نحوا من عشرين مسألة من أمثلة رجوع الصحابة إلى خبر الواحد منها رجوع الأنصار يوم السقيفة لما احتج أبو بكر رضي الله عنه بقوله عليه الصلاة والسلام "الأئمة من قريش" مع أنه مخصص لعموم قوله تعالى "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" ولم يقل له أحد كيف تحتج علينا بخبر لا نقطع بصحته ومنها رجوع أبو بكر رضي الله عنه في توريث الجدة إلى خبر المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة ومنها أن عمر رضي الله عنه كان يجعل في الأصابع نصف الدية ويفصل بينها فيجعل في الخنصر ستة وفي البصر تسعة وفي الوسطى والسبابة عشرة عشرة وفي الإبهام خمسة عشر فلما روي له في كتاب عمرو بن حزم أن في كل أصبع عشرة رجع عن رأيه، ثم قال الرازي بعد ما ذكر أمثلته التي ساق: "فهذه الأخبار قطرة من بحر هذا الباب ومن طالع كتب الأخبار وجد فيها من هذا الجنس ما لا حد له ولا حصر وكل واحد منها وإن لم يكن متواترا لكن القدر المشترك فيه بين الكل وهو العمل على وفق الخبر الذي لا تعلم صحته معلوم فصار ذلك متواترا في المعنى" الواحد.(المحصول ج4 ص 376).
قلت والأمثلة التي ورد فيها توقف بعض الصحابة في خبر الآحاد إنما هو بسبب أمر خارجي كحديث عمر وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما في الصحيحين بشأن الاستئذان إذ استغرب عمر رضي الله عنه أن يخفى عليه وهو أحد كبار الصحابة سنة من هذا القبيل، ومن هذا القبيل يعني رد الخبر لأمر خارجي رد الحنفية خبر الآحاد فيما تعم به البلوى ورد المالكية خبر الآحاد المخالف لعمل أهل المدينة مع العلم أن الجمهور على خلاف المذهبين في جميع ذلك.
5- اعتاد الملوك بعث سفير واحد ورسول واحد برسائلهم ولولا أن عادة العقلاء جرت بتصديق الثقة لم يفعلوا.
6- لو أن هؤلاء المنكرين لحجية خبر الواحد اتصل عليه ثقة وأخبره أن ابنه وجد مغشيا عليه وأنه نقل إلى مستشفى كذا لم يساوره الشك في صدق النبأ ولا احتاط في ذلك فالاحتياط في تنفيذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى وأوجب.
ولنختم هذه الكلمة بقول أبي حاتم بن حبان "وأما الأخبار فإنها كلها أخبار آحاد لأنه ليس يوجد عن النبي صلى الله عليه و سلم خبر من رواية عدلين روى كل واحد منهما [ عن ] عدلين حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما استحال هذا وبطل ثبت أن الأخبار كلها أخبار آحاد فمن رد خبر الواحد فقد رد السنة كلها " قال الحازمي " ومن سبر مطالع الأخبار عرف صواب ما ذكره ابن حبان " (الزركشي: النكت على ابن الصلاح ج1 ص 262).