لقد كانت قمة دمشق 2008 هي آخر قمة عربية تعقد في سوريا، في ظل توتر كبير بالمنطقة بسبب الأوضاع في لبنان مع انتهاء مأمورية الرئيس اللبناني الأسبق إيميل لحود وتعذر انتخاب خلف توافقى له، حيث ربطت كل من السعودية ومصر حضورهما لتلك القمة بتسهيل سوريا لانتخاب ميشيل سليمان رئيسا للبنان وهو ما لم يتم في حينه، ليتراوح تمثيل كل من السعودية
ومصر والأردن في قمة دمشق ما بين سفير ونائب وزير، بينما بقي مقعد لبنان شاغرا. ورغم ذلك، وبعده بسنتين في يوليو 2010 وصل الرئيس بشار الأسد والملك عبد الله بن عبد العزيز إلى بيروت على متن طائرة ملكية سعودية لاحتواء تفجر الأوضاع في لبنان بعد عزم محكمة الجنايات الدولية توجيه تهمة اغتيال الحريري لحزب الله اللبناني.
قال بشار الأسد في كلمته الافتتاحية لهذه القمة واصفا الواقع العربي " إننا الآن لسنا على حافة الخطر وإنما في قلبه " والسؤال هنا وارد عما ذا سيقوله المتناوبون على الكلام في قمة نواكشوط، وأين العرب اليوم من الخطر بعد أن كانوا في قلبه سنة 2008 وهم دول قائمة، وأين أصبحوا منه اليوم وربع بلدانهم في طريقه إلى التفكك والزوال، ويحمل ذلك الربع كل فيروسات العدوى للبقية.. وهل هناك ما هو أخطر من قلب الخطر؟!
في هذه القمة تنبأ معمر القذافي بمصير الزعماء العرب، مقدما إعدام الغرب لصدام حسين مثالا وقد صدق تنبؤه، حيث أعدم صدام حسين بحبل مشنقة في ظل احتلال أمريكي، بينما أعدم هو بصاروخ فرنسي بعد شهر من القصف الجوي بطائرات وصواريخ " حلف النيتو "، وفيها أيضا كانت المرة الوحيدة التي يمثل بلدنا في قمة عربية من طرف سيدى ولد الشيخ عبد الله كرئيس للبلاد.
ورغم أن سوريا عضو مؤسس لجامعة الدولة العربية عندما تم إنشاؤها سنة 1945 من طرف سبعة بلدان عربية هي بالإضافة إلى سوريا مصر والعراق ولبنان والسعودية والأردن واليمن، إلا أن آخر قمة عربية تحضرها سوريا رسميا كانت قمة 2010 بسرت الليبية، وذلك على إثر تعليق عضويتها بالجامعة من طرف وزراء الخارجية العرب في نوفمبر 2011 بسبب ما قالوا إنه قتل النظام السوري لشعبه.
وقد ظل المقعد السوري في مؤتمرات القمة العربية التالية لقمة سرت يتأرجح بين الشغور والتمثيل الشكلي من طرف ممثل للمعارضة السورية وذلك، وبشكل واضح، تبعا لموقف البلد المستضيف للقمة مما يجري في سوريا، حيث بقي مقعد سوريا شاغرا في قمة بغداد 2012 والعلم السوري بنجمتيه إلى جانبه، ليشغل معاذ الخطيب رئيس الإئتلاف السوري المعارض وقتها هذا المقعد في قمة الدوحة 2013 ويلقي كلمة وعلم المعارضة السورية بنجماته الثلاث عن يمينه، وفي قمة الكويت 2014 شغل المقعد من طرف أحمد الجربا كممثل للمعارضة لكنه اكتفى بالحضور دون السماح له بإلقاء كلمة باسم سوريا. أما في قمة شرم الشيخ 2015 الأخيرة فقد عاد المقعد السوري للشغور، حيث صرح هيثم المالح رئيس الإتلاف السوري آنذاك أنه لم توجه الدعوة للمعارضة لحضور ذلك المؤتمر.
عادت الجامعة العربية بعد ذلك واعترفت بأن قرار تعليق عضوية سوريا كان خطأ، فقد أغلق قنوات الاتصال مع النظام السوري وجعله يصنف العرب في خانة الأعداء ويستدير بوجهه، بل وبكامل جسمه نحو إيران، إيران التي كان السبب الأساسي لتركيز بعض بلدان الخليج على ما يحدث في سوريا أكثر من التركيز والتدخل في أحداث البلدان الأخرى، هو الخوف من إحاطتها بالهلال الشيعي من خلال النفوذ الإيراني في سوريا والعراق واليمن والبحرين. مثلما اعترفت الجامعة أيضا بخطإ رفعها للملف الليبي لمجلس الأمن متيحة بذلك تدخل الناتو وتفكيك هذا البلد.
وهي اعترافات تأتي دائما بعد أن ينتهي كل شيء، ك " أسف وحزن " توني ابلير على غزو العراق والإطاحة بنظامه، و" الأسف الوحيد " لباراك أوباما على التدخل في ليبيا والإطاحة بنظامها دون تقدير لما سينجم عن ذلك، وهو أسف إن صح من الاثنين، بالإضافة لاعترافات الجامعة العربية فإنه لا يختلف عن أسف الطبيب على التدخل غير الحذر لعلاج قرنية العين، لتتحول العلة من ضعف في البصر إلى عمى كلي..!
وهكذا كان الغرب، كعادته دائما، أذكى من العرب في الوصول إلى أهدافه وغاياته ومصالحه، فحصل من النظام السوري على ما يعنيه وما يهمه، فجرده من سلاحه الكيميائي وشجع وأقنع جواره على تسليح معارضته لإنهاك جيشه واستنزاف ترسانته من السلاح، شالا بذلك النصف الأيمن لسوريا تاركا دول الإقليم وروسيا و" داعش" يتصارعون على مصالحهم ونفوذهم في نصفها الأيسر..
بالنسبة لنا في موريتانيا وباعتبارنا من أقل البلدان العربية انغماسا في الأزمة السورية، فإننا لم نوجه الدعوة لحضور القمة للنظام السوري ما دام تعليق عضوية بلده قرار للجامعة ولا زال قائما، لكننا قد لا نكون ملزمين كذلك بتوجيه الدعوة للمعارضة السورية باعتبارنا نحن من نوجه الدعوات، أما إذا أصرت بعض الأطراف العربية الوازنة والغارقة في الشأن السوري على استدعاء المعارضة السورية للحضور فإن ذلك أيضا لا يشكل إحراجا لنا، إذ ينبغي أن نتميز عن بقية الأطراف بعدم التركيز على الشكليات.. ولا شك أن حضور وفد من المعارضة السورية لشغل المقعد السوري أمر في غاية الشكلية، إذ لم يغير شيئا على الأرض في السابق، ومن المستبعد أن يغيره اليوم.
وعموما فإننا لا نتحدث هنا بالأساس عن غياب سوريا النظام أو المعارضة، وإنما عن غياب سوريا الأرض والحضارة والدور المحوري والمكانة والتاريخ.. منشدين مع شاعرها العظيم نزار قباني في رائعته ( يا تونس الخضراء ):
الفل يبدأ من دمشق بياضــــــــه **** وبأرضها تتطيب الأطيـــاب
والماء يبدأ من دمشق فحيثمــــا **** أسندت رأسك جدول ينســاب
والشعر عصفور يمد جناحـــــه **** فوق الشآم وشاعر جـــــوّاب
والحب يبدأ من مشق فأهلنــــــا **** عبدوا الجمال وذوبوه وذابوا
والخيل تبدأ من دمشق مسارها **** وتشد للفتح الكبير ركــــــاب
والدهر يبدأ من دمشق وعندها **** تبقى اللغات وتُحفظ الأنساب
ودمشق تعطي للعروبة شكلها **** وبأرضها تتشكل الأحقــــاب
ودمشق قديما وحديثا، بالنسبة لبلاد الشام عموما في سوريا ولبنان وفلسطين هي الشام، والشام الأرض والتاريخ كانت هي المرجع والنموذج المثالي في الدعاء المأثور " اللهم وأجل كل أرض لأهلها شام " وفعلا فقد أجاب الله ذلك الدعاء وصار كل ابن أرض يتشبث بأرضه ويحن إليها كلما أغترب ويتغنى ويتباهى بها.. لكن من يعرف دمشق وأهلها ومكانتها وتاريخها العبق، سيدرك أن نزار إنما وصفها بكل أمانة وبكل ما هي أهل له.
وبأرضها تتشكل الأحقاب.. فلا شك أن ما تشهده المنطقة اليوم من أحداث ما هو إلا مخاض لحقبة جديدة تتشكل، لكن محور ذلك كله وقطب رحاه هو دمشق، ولذلك رأينا التكالب عليها أكبر.. هذا إذا لم يكن ما تشهده المنطقة هو صورة من صور ملحمة الشام الكبرى الواردة في الأحاديث وتلك، لعمري، حقبة لا كالحقب ما بعدها إلا ظهور الدجال..
أما إذا كان ما يجري ليس هو الملحمة الكبرى وكان لا يزال من الدنيا بقية، فعسى أن تكون نواكشوط مكانا وزمانا لتحقق أمنيات و" استدراك " نزار في آخر نفس القصيدة، وإن بعد مماته.. تلك الأمنيات التي ما هي إلا أمنيات وتطلعات أكثر من ثلاثمائة وخمسين مليون عربي في العزة والمجد والكرامة، بعد أن صرخ في وجه العرب وقسا على العروبة وضاق بها لكن كما تضيق بكحلها الأهداب.. فيضيق الحكام العرب بواقع بلدانهم وشعوبهم المرير، ويصرخوا في وجوه بعضهم أن لا مآل لما هم في اليوم إلا المزيد من المآسي، إن لم نقل الزوال.
فإذا صرخت بوجه من أحببتهم **** فلكي يعيش الحب والأحبــابُ
وإذا قسوت على العروبة مـرة **** فلقد تضيق بكحلها الأهــــدابُ
فلربما تجد العروبة نفسهـــــــا **** ويضيء في قلب الظلام شهابُ
ولقد تطير من العقال حمامـــة **** ومن العباءة تطلعُ الأعشـــــابُ