في ظاهرة غريبة ونادرة تجر بعض الشعوب من القاعدة نخبها المتعلمة إلى فضائل التنوير وساحات العمل و الإبداع وتجعلها تعتلي صهوة الأحداث الجسام و تتبنى نبيل المواقف في حالك الأزمات و ضروري الحسم.
و إذا كانت هذه الظاهرة و من خلال القراءة الماضي من تاريخ بعض الأمم والشعوب أكثر ظهورا و أبلغ أثرا في التحولات التي عاشتها
و عرفتها و قاستها دولها كما كان الحال بالنسبة للثورة الفرنسية والأمم الأوروبية و في الصين و الهند و من بعدهما من الأمم والشعوب لا يحصى، فإن الظاهرة في موريتانيا هي الأحدث نسبيا والأكثر ظهورا حيث حيوية الشعب و حبه التطلع على ما يجري من حوله يتناقض بتاتا مع ما تعيشه النخب برتابتها في بروجها العاجية العالية من انفصام شديد عن الواقع رغم التراكم الهام من المعارف التي حصلت و العلوم و ما وصلت إليه من حصاد الشهادات.
فإن المتتبع لما يحصل من التحولات على مسطرة التعامل اليومي الذي تمليه المدنية الزاحفة على الخلفيات البدوية رغم الذي يطبع تلك التحولات من البطء الشديد، لا بد أن يلحظ أن الأمر تجاوز مجرد هذه المعاملات إلى بناء وصياغة المواقف من القضايا الجوهرية المتعلقة بكل مجريات حياة البلد الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية و علاقاتها بالخارج من حولها و تأثيراتها على مساره.
فمثلا لا تخضع حركة السوق النشطة لسياسة تجارية محكمة، يضع قواعدها و يسيرها خبراء البلد من أبنائه الذين درسوا علومها و تعلموا لتطبيقها أصولها، بقدر ما يحصل النشاط المتميز ويتطور باضطراد وفق ما يقدره التجار البسطاء فيها وتعلم أغلبهم محدود، صغارا و كبيرا، باعة على الرصيف و متجولين وأصحاب الجملة والتقسيط، بإرادتهم و قدرتهم على استساغة ما يجري في بلدان العالم من حولهم و التعلم منه و إعداد المناهج و الصيغ التعاملية من مجرياتها و حيثياته.
وبالطبع فليست السياسة بمعزل عن الحضور الجماهيري دون النخبوي و التي تتربع على الأحزاب فيها و منظمات المجتمع المدني و تستخدمها أداة للوصول إلى السلطة و تحصيل الجاه و ترسيخ المكانة و الحصول على النفوذ من دون اكتراث حقيقي بمصالح الشعب أو سعي حدثيث إلى بناء كيان البلد الصلب القادر على البقاء في ظل العولمة.
إن القواعد الجماهيرية العريضة من أساس الهرم و عند المنطلق تعي و تدرك حقيقة ضعف نخبها المتلبس بالاستعلائية الصماء ونرجسية أفراها في بروجها العاجية لا تنتج و لا تهدي إلى التغير المنشود؛ قواعد ديناميكية لا تستسلم رغم كل ذلك و هي تمارس السياسية على نحو، و إن يخالف قواعدها المتعارف عليها في غياب المرشدين، و تبلي فيها بلاء حسنا استطاع رغم كل الاختلالات أن يكرس واقعا سياسيا تنتعش في دائرته حركية تمنع من تقويض الحياة السياسة الضرورية لتوازن البلد و حمايته من المخاطر الجمة المحدقة به في الداخل و من الخارج.
و في مفارقة عجيبة إنها الجماهير التي تصنع لوحدها الأحداث و تقدر و تحدد وتتبنى المواقف الكبرى الفاصلة التي كثيرا ما تنجي و تحفظ البلد من شطط السياسيين الذين يستسلمون في النهاية لصوابها و نجاعتها من دون الإعلان من ناحية ، وتنجح في تحويل المسارات المتطرفة إلى مسالك التهدئة و رسم توجهات جديدة محيرة لكنها المنجية في النهاية، من ناحية أخرى.
و هي الجماهير التي تقدر كذلك، من دون النخب السياسية و تلك المحسوبة على الثقافة و الفكر والمجتمع المدني، المواقف الصحيحة التي يتعين دائما اتخاذها و يجب تبنيها من كل قضية أو حدث أو أمر بالغ و هام يعني البلد كما هو الحال بشأن القمة العربية التي ستلتئم قريبا في العاصمة نواكشوط حدثا بارزا واستحقاقا له دلالات كبيرة وليس دونها تناول قضايا الأمة العربية في حضن البلد.
ولما أن تعاطي معظم النخب، السياسية و الثقافية والفكرية و الإعلامية على حد سواء بدا من أول وهلة دون المطلوب باهتا و ضعيفا، فقد انبرت الجماهير من كل المستويات تتحدث عن القمة العربية، تثمنها وتعد لها معنويا و في المظاهر وتستعجل الإعداد المادي لها في حماس منقطع النظير و بإيمان راسخ بوصفها قمتهم و فجر و مجد بلدهم. وإنه الحماس الذي بدأ يوخز و يؤنب ضمائر البعض من أفراد هذه النخب حتى تشكل شبه حراك في الاتجاه الصحيح وإن ما زال دون المطلوب إلا أنه أثبت قاعدة أن جماهير هذه البلاد هي التي تحرك نخبها و تدفعها إلى الحراك المطلوب و لا تترك لها فرصة الاستغراق في السبات العميق و التقاعس عن الدور المنوط بها.
فإلى متى يظل الأمر على هذا النحو، نخب عاطلة و معطلة لقدراتها و طاقاتها، و قواعد جماهيرية عريضة تتسم بعلو الهمة و قوة الإرادة لكنها تفتقد قيادات مستنيرة ورشيدة؟