عندما يرفض المحسوبون على نخبة التنوير الفكري و العطاء الأدبي حضور "النقد"، يخشونه و لا يصغون إلي رسائله السامية فلا شك البتة أنهم قد أوصدوا الباب عمدا أمام صقل المواهب و ضربوا طوقا من الانتكاس الحضاري على أمتهم.
إن تقبل النقد و تبنيه أسلوبا حياتيا أولا في الغرب وعديد بلدان العالم الأخرى هو وحده الذي أفرز لها أدبا رفيعا هذب النفوس و طور الفنون المسرحية
و السينمائية و خلق بوادر المدنية السوية التي أنارت بدورها درب السياسيين و أنجبت من بينهم القادة السويين حراس الآداب و الفنون و العلوم و مبادئ الإنسانية و حقوقها.
و إذا كان النقد هو التعبير المكتوب أو المنطوق من متخصص يسمى ناقدا عن سلبيات وإيجابيات أفعال أو إبداعات أو قرارات يتخذها الإنسان أو مجموعة من البشر النقد في مجال الأدب، والسياسة، والسينما، والمسرح وفي مختلف المجالات الأخرى، من وجهة نظر الناقد، و يذكر مكامن القوة و مكامن الضعف فيها و يقترح أحيانا الحلول، فإن ها النقد لا بد أن ينسحب على مخرجات تحمل و تعبر عن عصارة الاهتمام من كل الجوانب بهذه الموضوعات التي تشكل معا القيمة المجملة لحياة البشر الذين لا إنسانية لهم من دونها و لا إبداعات من وحي العقل يتنافسون في رفع أسقفها إلى أعلى مراتب السمو و الإبداع. وفي خضم هذه الاهتمامات و تشعبها و ابتعادها في الظاهر عن بعضها حتى لتبدو كل منها مستقلة في مضمارها، يبقى الأدب في معناه الشامل ذلك الخيط الرفيع لا تدركه الأبصار في أغلب حاله، و هو الرابط و الناظم لتعبيراتها. ولولاه ما كان للفكرة أن تتجسد و لا للرسم أن ينطق بسر الضوء و الألوان و التباية و الظلال و لا للمسرح أن يهذب النفوس و لا للسينما أن تضيء جوانب واقع الكون المظلمة و لا للطب أن سيتكشف و يستنطق مكامن النفوس و أدوار الأعضاء و الأطراف، و لا للسياسي أن يسحر بالبيان و لا للكون أن يفصح عن جماله. ولكن الأدب الذي هو بحجم العقل الكائن يعرف المعاناة حين تحاصره نوائب الضعف و الارتكاس و تختلط عليه دوافع البقاء وأسباب الاستسلام ما دعاه من داخله إلى ابتداع النقد مقصا بوجه و رافعة بوجه آخر. وهذا النقد قد يكون مكتوبا في وثائق داخلية أو منشورا في الصحف أو ضمن خطب سياسية أو لقاءات تلفزيونية وإذاعية ينظر في قيمة المخرج و يقيمه. فالنقد المعرفي مثلا هو النظر في إمكانية وشروط المعرفة وحدودها، وهو عموما عدم قبول القول أو الرأي قبل التمحيص، وينقسم إلى نوعين عامين : نقد خارجي وهو النظر في أصل الرأي، ونقد داخلي وهو النظر في الرأي ذاته من حيث التركيب والمحتوى.
إذا كان الأساتذة الدكاترة قد أثبتوا خلال مداخلاتهم الرفيعة خلال الندوة التي نظمتها جمعية النقد الأدبي الموريتانية يوم 17/07/2016 بنواكشوط تحت عنوان "قراءة في منجز الدكتور محمد ولد بوعليبه" درايتهم الأكاديمية و فرادتهم العالية بالنقد و إلمامهم بمدارسه و إحاطتهم بمناهجه و تمكنهم من استخدام آلياته و سبر أهدافه و واستكشاف و إدراك مغازيه، فإنهم و عن غير قصد تركوا جمهور الحاضرين على ظمئهم و هم على شاظئ نهرهم المعرفي الدافق المعطاء حيث لم يقدموا المنتج أو العمل أو الإبداع الأدبي أو الفكري أو الإنساني الموريتاني الذي تنسحب عليه قواعد النقد فتبرز لهم جوانب الضعف و القوة فيه، قبل الانصراف معه إلى الحديث عن وجوب نقد نقده لسمو العقول و الذائقة الأدبية إلى مرقى جديد من مراقي استكشاف كنه الإبداع وسبر مزيد من غور الأدب اللا متناهي.
لكن الذي يشفع لهؤلاء الأساتذة الأجلاء و للدكتور الباحث المتميز، بعطائه الغزير و تفرغه المشهود للبحث و التحصيل و البذل و العطاء، سببان خارجان مطلقا عن إرادتهم:
· أما السبب الأول فضعف البحث و انحسار الجمع و هزال التأليف وغياب النشر، الأمر الذي يبقيهم نقادا ألمعيين لكن في دائرة النظري مما تعلموه و التنظير عوضا عن مفقود محلي للمنتج خارج دائرة الوطن وتتحول بذلك مادة النقد المتفردة بسمو المقاصد إلى مادة جافة كما هو حال الدرس الفلسفي الذي تقلص و دائرته و انصرف عنه أهل ذائقته،
· و أما السبب الثاني فمتمثلا فيما هو حاصل من رفض استدعاء النقد لتقييم قليل المنتج الأدبي و الفكري و الفني وغيرها بهدف التمحيص و التقويم و رفع قيمة الأداء في دوائر المنهجيات العلمية السليمة.
و بقدرما هي رابضة وراء هذا التمنع من تقبل النقد مختلف إشكالاتُ الضعف الماثلة في بناء المنتج، بقدر ما لا تزال المجاملة و خشية ردود الفعل الحادة من المنتقد متاريس ضارية أمام النقاد و قيود فولاية تكبلهم عند أول خرجة شجاعة على أي عمل يظهر خجولا في ساحة راكدة صخبها أكثر تراكما على رفوفها من مخرجات صانعتها.