عرفت تركيا منذ تأسيسها على يد كمال آتاتورك في 1923 عديد الانقلابات العسكرية بدأ بانقلاب 1960 و حتى انقلاب 2016م الفاشل، و جل ما تميزت به كل الانقلابات العسكرية التي حدثت في تركيا كان ما يعقبها من اعتقالات و اعدامات و حتى نفي للضالعين أو من يظن أنهم ضالعون في تلك
الانقلابات، مما تشتم فيه رائحة الاستهداف و تصفية الخصوم نظرا لحجم تلك الإجراءات و الاعداد الهائلة من المواطنين الذين طالتهم.
ففي انقلاب 1960، الذي جاء لأسباب اقتصادية و سياسية حيث كانت تركيا تعاني في تلك الفترة من هشاشة في الاقتصاد و ضعف في التنمية و كانت تقتات على مساعدات تقدمها لها الولايات المتحدة الأمريكية طبقا لمبدأ ترومان الذي استفادت منه تركيا في اطار خطة أمريكية تقضي بمحاربة المد الشيوعي آنذاك و مشروع مارشال القاضي بإعادة اعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن تلك المساعدات توقفت تاركة وراءها تركيا تتخبط في أزمة اقتصادية خانقة اضطرت الحكومة آنذاك للبحث عن بديل عند روسيا، لكن الانقلاب اجهض تلك المحاولة بقيادة بعض الضباط على رأسهم أربالسلان ترك و الذي كان من بين الضباط الذين تكونوا في الولايات المتحدة الأمريكية، رغم أن أسباب ذلك الانقلاب لم تعرف إلا أنه من الجلي ، حسب المعطيات التي تفيد بتكوين القائد الفعلي لدى أمريكا، أن الأخيرة كانت وراء ذلك الانقلاب.
كما شهد انقلاب 1960 تقاعدا اجباريا لما يزيد على 200 قائد عسكري و 3000 آلاف جندي، و قمع أكثر من 500 قاض و نائب عام و ما يزيد على 1400 من أعضاء هيأة التدريس بالجامعات. كما تم اعدام رئيس الدولة آنذاك و بعض الوزراء بعد محاكمة اتهموا خلالها بالخيانة العظمى و تعطيل الدستور.
لم يكن انقلاب 1971 دمويا لكنه كان انقلاب حيث فرض قادة الجيش الاستقالة عن طريق برقية تهديد تم ارسالها من قبل قيادة الجيش لرئيس الوزراء، الذي قابلها بتقديم استقالته بعد ساعات من اجتماعه هو و حكومته، ما سمح للجيش بالسيطرة على الحكم ليتوارى خلف حكومة عينها لتكون واجهته التي يمرر عبرها قراراته.
لكن تلك المشاكل و لأسباب التي كان من أسباب و دوافع الانقلاب استمرت حتى انقلاب 1980.
كان انقلاب 1980 شبيها بانقلاب 1960 حيث تم خلاله اعدام ما يربو على 50 مواطن و اعتقال ما يزيد على 650 ألف، ووقوع مئات حالات الوفاة بسبب التعذيب، و اختفاء الكثيرين و نفي ما يزيد على 30 ألف مواطن، و تميز هذا الانقلاب بالدعم الصريح من قبل الولايات المتحدة الامريكية التي قدمت المساعدة للانقلابين و وفرت كل ما يمكن أن يساهم في تثبيت الحكم بيد الجيش التركي.
و بقيت تركيا على وتيرة ذلك الانقلاب حتى جاء طيب أردوغان على رأس الدولة في انتخابات 2002 التي مكنت حزبه من الوصول للسلطة ليتسلم هو مقاليد الحكم بعد سنة من ذلك التاريخ و بعد اسقاط الحكم الصادر في حقه و الذي منعه من ترأس الحكومة التي شكلها حزبه على اثر فوزه الكاسح في انتخابات 2002.
إن الهدف من سرد تاريخ تركيا الحافل بالانقلابات العسكرية الوقوف على حقيقة ما جرى في الأسبوع الماضي من محاولة للانقلاب على حكم أردوغان و ما يجري حتى الآن من اعتقالات و تعسف و حتى تشهير على وسائل الاعلام خاصة قناة الجزيرة ذات الميول الاخوانية و التي تعمدت نشر الكثير من الصور و المعلومات حول الانقلاب بشكل حصري ما يجعل المتتبع لهذه القضية يشك في أن مؤامرة حبكت لتلميع صورة أردوغان المطبع مع إسرائيل أمام الرأي العام العربي من جهة و تقوية شوكته على مستوى تركيا و استهداف خصومه و معارضيه ممن يشكلون خطرا على نظامه.
إن المحاولة الانقلابية الفاشلة التي حدثت منذ أيام تشبه في نتائجها و ردة فعل نظام أردوغان بعدها ما سبق أن عرفت تركيا من انقلابات خاصة انقلاب 1960 و انقلاب 1980، و ذلك بعد عزل أردوغان ل 30 من قيادات الجيش التركي و اعتقال أزيد من 700 عسكريا، و اعتقال مئات القضاة و الأساتذة الجامعيين و مطالبة الولايات المتحدة بتسليم فتح الله غولن الزعيم المؤسس لحركة الخدمة ما يمكن اعتباره نوعا من تبطين الاتهام للولايات المتحدة على أنها تقف وراء الانقلاب و كذلك اتهام لغولن و حركته على أنه تشكل الجناح المدني للانقلاب الفاشل.
جدير بالذكر هنا ما نشرته الجزيرة حول غولن و حركته في في مقال نسبته لنفسها وعنونته بـ (حركة الخدمة في تركيا .. جماعة فوق السياسة) و الذي نشر في 11/01/2014 على الموقع الاخباري للقناة و الذي حاولت من خلاله الجزيرة الربط بين هذه الحركة و إسرائيل لتصغر من شأنها و تضعف من قوة انتشارها في العالم العربي، حيث كتب في المقال : "وتجنبت "الخدمة" عبر تاريخها الطويل انتقاد إسرائيل، معتبرة أن ذلك يوطد علاقاتها مع الدول الغربية. لكن هذا الموقف المتحفظ تطور ليتجسد موقفاً منتقداً لسفينة "مافي مرمرة" التي اعترضتها قوات الاحتلال الإسرائيلي في عرض المياه الدولية وقتلت تسعة مواطنين من الأتراك. فقد هاجمت وسائل إعلام الحركة منظمي الرحلة، في حين حملهم غولن المسؤولية لأنهم "لم يأخذوا الإذن من إسرائيل، إذ التحرك من دون إذن السلطة تمرد".
إلا أن أردوغان من خلال تطبيعه مع إسرائيل أفشل محاولات الاعلام المحلي و الدولي الموالي له المساس من تلك الحركة، مما يرجح فرضية أن هذا الانقلاب مفبرك لاستهداف الخصوم و بشكل أخص جماعة الخدمة و زعيمها، و لا أدل على ذلك من تلك الخرجات الباهتة للدبلوماسيين الأتراك في عديد الدول لتوضيح للرأي العام في تلك الدول ما جرى في تركيا، حيث لم يستطع الدبلوماسيون الأتراك اثبات صدقهم في تصريحاتهم نظرا لعدم قدرتهم على الإجابة على كثير التساؤلات التي طرحت عليهم و التي من ضمنها أسباب استهداف و اتهام حركة الخدمة في هذا المجال.
وفي الختام أعتقد أن السحر انقلب على الساحر كما يقال، فأردوغان الذي عدل الدستور التركي ليسمح بمحاكمة من خاضوا انقلابات عسكرية في السابق و يسمح كذلك بالتحقيق في كل تلك الانتهاكات التي حدثت على اثر تلك الانقلابات جاء هو نفسه ليقع في نفس الأخطاء و يتيح الفرصة لمن يأتون بعده في محاكمته هو و من معه على اثر الاستهداف الممنهج للخصوم السياسيين ممن ليست لهم صلة به و بأحزاب المعارضة التي تتودد له مذكرة اياي بأحزاب موريتانية تضع قدما في المعارضة و آخر في المولاة لتبرر ما يقوم به النظام و تشرع له كل شيء دون أن يحتاج لإشراك المعارضة الحقيقية التي لا يشبهها في تركيا سوى حركة الخدمة التي يصفيها عن بكرة أبيها أردوغان المطبع.