تنعقد في موريتانيا هذه الأيام قمة عربية جديدة، يلتئم فيها شمل جماعة من الزعماء العرب، بغية نقاش قضاياهم المصيرية، التي يفترض أن تكون وجدت حلولا في آماد وآجال سابقة، كان فيها العرب بألف خير، قياسا بالواقع المزري، الذي يرزحون تحته حاليا، بفعل تراكمات النكبات السياسية والاقتصادية
والاجتماعية، التي أرقت ولا تزال تؤرق الضمير العربي بافتراض أن لدى العرب ضمائر حية.
قمة نواكشوط تحاذت مع خصوصيات كبيرة، فرضتها طبيعة المضيف، ولم تكن لتمر من دون تعليق من قبل الضيوف، أو بعضهم من فضوليين، لم يرقهم أن تتزعم موريتانيا مشهدا عربيا من أي نوع كان، فبادروا بتوجيه انتقادات لاذعة لدولة موريتانيا، يستنقصون فيها من شأنها، وينعتونها بالفقيرة والمنسية، مستشهدين على كلامهم بانعدام البنية التحتية، القادرة على استضافة القمة العربية، في القصور والمسابح وفنادق السبع نجوم، والمنتزهات الملكية والأميرية ذات الحدائق المعلقة، والمسابح الفضية المطرزة بالذهب والياقوت، وكأن الجماعة تهم بجولات سياحية على حساب الشعوب العربية.
وكانت بداية الصدمة عندما ذاع حدث، خروج السفير الفلسطيني من فندق "وصال"، محتجا على البساطة والبطاطة، وعلى ظروف الإقامة غير المريحة لجنابه الموقر، وإذا صح ذلك الخبر الذائع، فإن ممثل الشعب الفلسطيني نسي تماما "شعب الخيام"، ونسي أن عليه أن يتواضع ويتأنى لعله يجد ضالته في قمة انواكشوط، فيتم اتخاذ قرار عربي عملي، يساند فلسطين المطعونة في الوجه والظهر من قبل الصهاينة ووو ....، فلسطين التي ينام شعبها في الشتات والمنافي في انتظار لحظة فارقة يجود بها الزمن.
بعد شائعات السفير الفلسطيني بدأت القافلة المسيئة تتحرك، فظهر وزير الصحة اللبناني وائل أبو فاعور يقود حملة مكشوفة على موريتانيا، ساخرا ملء شدقيه من فقر موريتانيا –على حد قوله- ومن أن العرب نسوا أو تناسوا أن يساعدوا بلاد المنارة والرباط، وبأن الوفد اللبناني لن يزور موريتانيا للإقامة، وإن مر بها مسرعا، قادما من إقامته بالمغرب، عائدا لها بسرعة الريح العاتية.
الوزير اللبناني علل الحالة بخوف الوفد اللبناني من الأمراض والأوبئة، وهو الذي يعيش في قمامة "طلعت ريحتكم" منذ ........، ومنذ نعومة أظافره، في ظل الفشل المطبق الذي حققته كإنجاز عظيم الحكومة، التي هو جزء منها، حيث تقف عاجزة أمام بطولة وبسالة النفايات، في وطن بسبب ذلك الفشل صار يغرق ... يغرق ... يغرق تحت الزبالة، وتسمع أصوات شعبه تتعالى من بين القاذورات، لعل الغد يحمل فرجا بات مستحيلا في ظل الفشل المتعاظم، الجاثم القائم القاتم بسبب سوء التدبير.
أبو فاعور يجهل أن موريتانيا أغنى من لبنان، شواطئها الممتدة الممتلئة سمكا وحوتا ليست لدى لبنان، والثروة الحيوانية فيها طائلة، وذهبها وحديدها ونفطها ليسوا لدى اللبنانيين، وهي قادرة بما حباها الله من خيرات بأن تعيش مطمئنة آمنة دون مساعدة من أحد، وفيها يجد اللبنانيون الكثير من فرص العمل والأمل، فالمطاعم والمقاهي اللبنانية المنتشرة في انواكشوط تساعد كثيرا اليد العاملة اللبنانية على جني الأرباح الطائلة من العمل في موريتانيا، كما يلاحظ وجود عائلات لبنانية أخرى فضلت العمل في مجالات أخرى، كمجال السيارات و بيع القماش، وذلك في الوقت الذي لا يوجد فيه موريتاني يعمل بلبنان، ولا يتطلع لذلك، خاصة في ظل علم الموريتاني المطالع لأحداث العالم بأن لبنان يعاني من فائض من الديون، جعله مرهونا للبنوك الدولية لعقود من الزمن، قد تصل دنياه بآخرته.
هذا على أنه يفترض بالعرب أن يعلموا أن القمة العربية تأتي لمعالجة قضايا مصيرية، ووضع تصورات وحلول لتلك القضايا، وتستحق منهم حمل البنادق والسيوف والمبيت في العراء، كما كان يفعل السلف في تاريخ الفتوحات الإسلامية، والبطولات العربية، وليس من اللائق أن يبخل العربي على قضاياه بالتضحية باقتراض أن الحضور تضحية بقارورات من الويسكي والشامبانيا تقدمها فنادق 7 و 5 نجوم، مع صبايا عرايا، ورقص شرقي بتنورة قصيرة على مسرح مستدير، لا يجيده الموريتانيات، تتراءى تحته المياه الفضية تعانق الأضواء المنبثقة من المصابيح البنفسجية.
لقد كان أجدادنا أبطالا حقيقيين، حاربوا وغالبوا وخاضوا الصعاب من أجل القضايا العادلة، التي آمنوا بها، واستشهدوا في سبيلها، واليوم صارت النضالات رهينة بالوجبات الدسمة، والفنادق و المباهاة، ولا يستحي بعض العرب من مطالبه المرتفعة بالرفاهية في الوقت، الذي يمثلون فيه شعوبا سلبتها السياسات الفاشلة أقواتها، وأوقاتها، وتترنح سفنها في بحار الفوضى والدمار بلا مرفأ ولا مرسى، وتعوم فاتنتها المفترضة في بحر من الأزبال.
لقد كانت تصريحات اللبناني المهووس ظالمة وغاشمة، ولا تستند لحقائق ودقائق التاريخ والجغرافيا، وإذا كانت أخذت في الحسبان تلميحا أن انعدام الصبايا والمطايا في واجهة السياحة والدعارة في موريتانيا، فعليها كانت أن لا تنسى أن المحافظة تقف وراء عدم وجود فنادق ذات كازينوهات في موريتانيا، والموريتاني برغم العولمة هو أول من يبجل المرأة ويحترمها، ولا يأكل بثدييها، ولكن أحشفا وسوء كيلة.
القمة العربية أيها السادة –ولعلكم لا تعلمون- تأتي في ظرفية حساسة، حيث العراق مراق الدم والعروبة، وسوريا تتشظى وتتلظى، وفلسطين ابتعدنا عنها بسقوط دول كانت ...، وليبيا تتلوى حسرة وندما، ومصر لم تتصالح مع إخوانها بعد، والسلفية الوهابية لم تجد تفسيرا حتى الساعة لأحداث الحرم، وأسباب عدم الحج الإيراني، واليمن هاديها لم يصبح منصورا بعد، وآردوغان الظهير الأيمن لبعض معارك العرب وزعاماتهم منشغل في بناء قضاء جديد وجيش جديد وإدارة مدنية جديدة، بل لما ينتهي من حكاية بداية السجون، وأوروبا تفهم اليوم معنى مقولة داهية الانجليز "إذا مات الانجليز تموت السياسة .. وإذا مات الأمريكان يموت الغنى .. وإذا مات الفرنسيون يموت الذوق .. وإذا مات الإطاليون يموت الإيمان .. وإذا مات الروس يموت السلام .. وإذا مات الألمان تموت القوة .. وإذا مات العرب تموت الخيانة!".
وأي خيانة أشد من التحمس لقمة عربية سرعان ما يتراجع عنها –البعض- ويذمها، ويقدح فيها، وسببه الواهي يتعلق بالخدمات والسياحة، لا بالنضال المشروع من أجل شعب الخيام، وشعوب الصحارى، والمنكوبين من أبناء الأمة العربية، وليتهم سمعوا شاعر القضية إذ قال -محمود درويش-: " وأنت تنام .. وتحصي الكواكب .. فكر بغيرك لا تنس شعب الخيام"! ...