كنت أول من خط حرفا فيما يتعلق بقرار بلادنا استضافة مؤتمر القمة العربي يوما واحدا بعد اعتذار المغرب، وتداول أولى طلائع الأنباء عن مجيء دورنا في استضافة هذا المؤتمر، كتبت ساعتها متمنيا إعفاءنا من تنظيم هذه القمة، لا لشيء آخر غير ضيق الوقت المتبقي عن موعد عقد القمة المعتاد أواخر
شهر مارس من كل عام، والذي كان يوم اعتذار المغرب أواسط شهر فبراير شهرا واحدا فقط، وبعد أن تمت المشاورات بين بلادنا وجامعة الدول العربية، وتقرر تأجيل القمة إلى شهر يوليو لنتمكن من الإعداد لها، كتبت أيضا مرحبا بهذا القرار باستضافة بلادنا لهذا الحدث الذي لا يمكن بأي حال إلا أن يكون مفيدا لبلادنا وعلى عدة أصعدة ومستويات سياسية واقتصادية وإعلامية وثقافية.. إذ ليس من المنطقي أن نستفيد من مهرجان ثقافي أو لقاء إقليمي، ولا تكون استفادتنا أكبر من مؤتمر عربي، بل ودولي، بحكم حجم حضوره العربي والدولي من قادة ومسؤولين وإعلاميين وخبراء ورؤساء صناديق وهيئات مالية واستثمارية، لا تحمل معها أموالها بالضرورة، ولكنها ستحضر وتسمع وترى ومن ثم تقرر..
لا أريد استبدال الاسم الذي أطلقه العرب على قمتهم باسم آخر، ولكن ما لم يتحقق الأمل فمن الطبيعي أن يظل هناك جدل.. وقد رافق هذه القمة جدل داخلي أكثر من الجدل الخارجي حول قدرتنا على احتضانها وتنظيمهما، وهو جدل طبيعي حول أول تحد من هذا النوع. غير أن الأمل لا يتحقق في الغالب دفعة واحدة، ولذلك سمى العرب قمتهم قمة الأمل ولم يقولوا إنها قمة الحل.. أي الأمل في أن تُطرح القضايا خلالها بالشكل الذي يساعد في تحقيق الأمل الذي هو درجات ومستويات وأولويات.. وكل ذلك يبدأ بخطوة.
فقد طلب أستاذ من طلابه أن يصف له كل واحد منهم الأمل حسب مفهومه، على أن يحصل صاحب أفضل وصف على نقاط إضافية في الامتحان القادم، فوصف كل منهم الأمل على طريقته، إلا أن أحد الطلاب عبر عنه بمفهوم بسيط وقريب جعل الأستاذ يختاره كفائز، حيث قال هذا الطالب إنه يسكن بعيدا عن الكلية، وأنه يذهب إليها سيرا على الأقدام كل صباح، وهو يدرك أنه لا الخطوة الأولى ولا الثانية ولا الثالثة ستوصله، لكنه يواصل السير وفي النهاية يصل..
عبرنا كذلك في كلامنا السابق عما هو متوقع من القمة العربية في ما يتعلق بالأزمات والنكسات التي تعاني منها المنطقة، وما قلناه وما قاله كتابنا وسياسيونا ومثقفونا حول هذه الأزمات، وما يجب حيالها وغير ذلك من الإحساس بالمخاطر المحدقة وضرورة التلافي لما هو أخطر، كل ذلك عبر عنه وزراء الخارجية في اجتماعاتهم المحضرة لقمة نواكشوط، وأعاده القادة وممثلوهم في جلسة الافتتاح، كما كانوا يقولونه في كل الجلسات الافتتاحية لأربعين قمة عربية مضت مما يؤكد أنه معروف لدى الجميع.
ولذلك سأعيد مفهومي لنجاح القمة المنعقدة في بلادنا الذي عبرت عنه سابقا والذي لا زلت عليه، وهو توفير ما باستطاعتنا، وأكرر ما باستطاعتنا، توفيره للضيوف من العرب والأجانب من قادة ومسؤولين وإعلاميين من أجواء ملائمة في هذا المحفل ونودعهم بسلام. وهو ما بذلنا جهودنا في سبيله رغم ضيق الوقت، والنقص في التجربة التي اكتسبها آخرون قبلنا على مدى عقود في تنظيم مثل هذه القمم والمؤتمرات.
وبذلك نجحت قمة نواكشوط، وتمرّنّا وزاد رصيدنا في هذا المجال، وسنقيم ما تمت ملاحظته من نواقص بهدف التغلب عليها مستقبلا، وفي كل قمة وكل مؤتمر، أينما عقد، هناك كواليس لنواقص وأخطاء وتقصير ومفاجآت، وغير ذلك مما لا نطلع عليه بحكم غيابنا عن مسرح تلك المؤتمرات، كما سنبذل ما بوسعنا خلال رئاستنا لهذه الدورة من اتصالات ومحاولات لحلحلة ما تكون فرص حلحلته عادة بواسطة الدبلوماسية أكبر من فرص حلحلته في المحافل والمؤتمرات متوكلين على الله أولا، ثم على نوايانا الصادقة وعقلانيتنا وحيادنا، قدر الإمكان، حيال الكثير من الأزمات العربية الراهنة.
وقد حققت لنا " قمة الأمل" مكاسب غير مباشرة في غاية الأهمية، فعلاوة على البنى التحتية التي استحدثناها في عاصمتنا، والتي كنا نرشد عنها الموارد في سبيل توجيهها لمجالات أكثر أولوية كسقاية مناطق عطشاء، وفك العزلة عن أخرى معزولة، واستصلاح أراضي زراعية وإقامة سدود في أراضي أخرى، وتوسيع ومد شبكات كهرباء، وتخطيط عشوائيات، وبناء مستشفيات ومدراس ومعاهد وجامعات وموانئ ومطارات، وتأمين ذلك كله بتحديث وتسليح وتدريب الجيش الوطني وقوات الأمن.. فما أنفق في هذه المجالات من مليارات كان كافيا لجعل نواكشوط جوهرة تتلألأ فنادق وطرقا وأبراجا وجسورا وحدائق وأنظمة صرف.. لكن لا يليق بنظام وطني يحمل هم ومسؤولية أمة وبلد وجد مناطق وسكان بلده على هذا الحال المزري، الانشغال عنه بتلميع وزخرفة المركز، وترك الأعماق والأطراف ترزح وتعاني..
فعلاوة على هذا المكسب فقد حققنا مكسبا آخر لا يقل أهمية في اعتقادي وهو منح نخبتنا " متنفسا"، ولعدة أسابيع، مكنهم من أن يقولوا على الشاشات إن موريتانيا بلدا عربيا دون أن يكلفها ذلك الالتفات إلى الجهات الأربع هل يسمعها من أحد وخوفا من التصريح بهذه الحقيقة " الجريمة ". ونأمل، بعد اختتام قمة الأمل ومغادرة الضيوف وبقائنا مع أنفسنا، أن تتغير " مدونتنا الجنائية " لكي يكون بريئا من الجرم أو الجنحة من قال إن موريتانيا بلدا عربيا، لا بالعضوية في الجامعة العربية فقط، وإنما هي بلد عربي لغة وثقافة وهوى وروحا، وإن كان به مكونة غير عربية كأغلب البلاد العربية.. ولا يريد ولا يسعى في أخفاء أو طمس تلك المكونة كما يحدث في بلدان أخرى، وهذه النخب الثقافية والسياسية والإعلامية هي من سيجعل هذه الحقيقة، إن أرادت، واقعا معاشا تعمل على تعزيزه والدفاع عنه دون تعصب أو استعلاء أو شعور بالدونية أو الحرج.
هذا بالإضافة إلى تواجد مئات الصحفيين قبل وأثناء انعقاد القمة في بلادنا، وعبر الكثيرون منهم عن مغايرة الصورة التي كانت في أذهانهم عن موريتانيا قبل زيارتها، للصورة التي مكنهم تواجدهم من الوقوف عليها بأنفسهم، وهذا مكسب كبير حققه انعقاد القمة. وقد تمنى بعض هؤلاء الإعلاميين، وخاصة العرب منهم، على الإعلام الموريتاني القيام بجهود جديدة للتعريف بموريتانيا على حقيقتها سياسيا واقتصاديا وثقافيا..الشيء الذي على الجهات المعنية الأخذ به ورسم استراتيجية إعلامية له، بإعداد برامج وريبورتاجات دائمة بهذا الخصوص، لكي إذا ما تذكر أحد هؤلاء الإعلاميين أو المسؤولين، أو غيرهم من المهتين موريتانيا وهو في بلده، وأراد الاطلاع أكثر على ما يتعلق بها، وضبط جهاز التحكم في تلفازه على إحدى قنواتنا، لا يجد نفسه أمام " مناظر طبيعية " وصور لقطعان الماشية وهي تتبول وتروث في البرك والبحيرات، أو حفلات موسيقية على مدار الساعة، وإنما يرى برامج وريبورتاجات معدة بعناية يقدمها إعلاميون ومثقفون وخبراء اقتصاديون بلغة فصيحة وبمونتاج وتصوير وإخراج جيد، لعل ذلك من استكمالنا لدفع ما تبقى من ضريبة " مستحقات ومتأخرات " العزلة التي عانى منها بلدنا لعقود..
وقد سبق انعقاد هذه القمة جدل كبير على عدة أصعدة، منها قدرة بلادنا على احتضانها وتنظيمها، وهنا نقول إنه لو كانت نتائج القمم وحسمها للقضايا العربية المطروحة يحسب بتنظيمها في قصور المرمر والرخام، وإقامة ضيوفها في فنادق " الشيراتون " و " الميريديان " لكانت كل الأهداف التي أنشئت من أجلها الجامعة العربية، وعقدت من أجل تحقيقها أربعين قمة عربية قد تحققت!
من جوانب هذا الجدل كذلك الضجة التي سببها تصريح وزير الصحة اللبناني حول ظروف الإقامة في نواكشوط، وقد كان موفقا تعاملنا رسميا مع ذلك التصريح انطلاقا من التصرف والمعاملة بالإعراض عن الجاهلين.. والإيعاز للبنانيين بأنه على الرحب السعة بمن يختارونه لتمثيل بلدهم في القمة مع حريته التامة في المكان الذي يريد المبيت فيه، واستقبال رئيس الوزراء اللبناني من قبل وزيرنا الأول، والحرص على عدم إشعاره أو وفده بأي أثر لتلك التصريحات.. وعلى ذكر لبنان و" زبالته " وتغير الأوضاع فيه بعد أن كان هو سويسرا الشرق، نذكر ساستنا ومفكرينا بأن لبنان كان جميلا عندما كان خاليا من التخندق السياسي، والتعصب للإيديولوجيات، والتصلب على الأجندات الضيقة، وأخذ لبنان الجميل رهينة لتلك المواقف والأجندات!
ظهر كذلك جدل حول مستوى التمثيل الذي طبع هذه القمة، وما يهمنا هنا هو أنه لم تكن هناك دولة عربية واحدة قاطعت المؤتمر ما عدا سوريا بحكم تعليق عضويتها بالجامعة، وأن 99.99% من القادة الذين لم يشاركوا في القمة لم يكن سبب عدم مشاركتهم راجع إلى توتر في العلاقات مع بلادنا، أو تذمر من مواقفنا حيال الأزمات والقضايا العربية المطروحة، وهو ما ظل السبب الأساسي لتغيب الزعماء العرب عن القمم على مدى عقود من عمر هذه الجامعة وقممها، فقد ظل الكثيرون منهم يترهبون من رؤية بعضهم البعض وجها لوجه، كان ذلك أيام الصفاء النسبي الذي طبع العلاقات العربية، فما بالك اليوم وأغلب هذه البلدان إما مشارك بكل ثقله في ما يحدث في البلد الآخر، أو مساند أو راع له؟!
لم يكن التمثيل في هذه القمة كذلك على مستوى السفراء أو المندوبين الدائمين كما كان يحدث في العديد من القمم السابقة، وإنما كان التمثيل على مستوى وزراء الخارجية فما فوق.. كما كانت المواقف ستكون هي نفسها لو حضر القادة، لأن أيا من ممثليهم لن يحيد قيد أنملة عن الموقف الذي كان سيتخذه الملك أو الأمير أو الرئيس لو كان حضر، فلا ينبغي أن نقر بعدم توقعنا لمواقف جديدة من هؤلاء الزعماء في حال حضورهم، وفي نفس الوقت نعاتبهم على عدم مشاركتهم..!
ولذلك لست بحاجة إلى القول بأنه على الرئيس عدم الرد على مقاطعة بعض القادة العرب لقمة نواكشوط بالتحول من محور الذين تغيبوا إلى محور الذين حضروا كما أشار بذلك بعض المستشارين غير المعتمدين.. لأنني متأكد من أن ذلك ليس هو نهج موريتانيا التي أثبتت في أكثر من مناسبة بأنها لا تعتمد سياسة المحاور، كما أثبتت قمة نواكشوط ذلك.. وأن ما يعتقده البعض " تمحورا " كان الانطلاق فيه من مصالح البلد بالدرجة الأولى، فلن يستقبلنا محور جديد إلا بثمن كذلك الثمن الذي يقولون إن " المخدم " يتنازل عنه للشياطين.. ولم يعودنا الرئيس، في إدارته للعلاقات البلد الخارجية، على تلك " الخفة " التي تأخذ بعض القادة أو الأنظمة للتصرف على ضوء اللحظة، الشيء شكل أكبر وبال على العلاقات العربية وبالتالي التضامن والتكامل العربيين! فمن حضروا ومن تغيبوا كلهم أشقاء لموريتانيا دعموها طوال مسيرتها التنموية منذ بدايتها ولا يزالون، والبيتان البليغان يقولان:
إذا ما خليلي أسا مــــــرة ××× وقد كان في ما مضى مجمِلا
تذكرت الماضي من فعله ××× ولم ينسنِ الأخـــــــير الأولا
مع أنه لم يكن في تغيب المتغيبين أية إساءة لموريتانيا، ولا يربطون علاقاتهم بها بحضور قمة أو التغيب عنها، إنما هي الظروف التي يعيشها الواقع العربي اليوم بتعقيداته وحساسياته ومواطن إحراجه.