شكل التنظيم المحكم والناجح بامتياز لمؤتمر القمة العربية السابع والعشرين في نواكشوط في 25 و26 يوليو الماضي حدثا كبيرا وعلامة بارزة في تاريخ دولتنا وتحولا كبير نحو حسن تسيير علاقاتها الخارجية (جعل البعض يصفه بالاستقلال الوطني الثاني )، هذا من جهة، أما من جهة أخرى فإن قمة نواكشوط
تعتبر محطة مهمة وعلامة كبرى في تاريخ العمل العربي المشترك وذلك أولا لكون العاصمة الموريتانية لم تنظم فيها قمة عربية من قبل وثانيا لأن الوضع العربي الراهن يحتاج إلى عمل جاد وأفكار وطرق جديدة تدفع إلى القيام بالمزيد من الجهد لتحقيق مصالح الشعوب والدول العربية وإصلاح الوضع الراهن.
إننا نرى أن هذه القمة تفصل بين حقبتين في علاقات موريتانيا الخارجية بل وفي رؤية موريتانيا والموريتانيين لأنفسهم وهويتهم ودورهم الإقليمي في سياق النظام العربي، فالمتابع لسياسة موريتانيا الخارجية لا يخطئ النظر إلى أن القيادة السياسية الحالية للبلد تدرك الدور المنوط بها والذي يمكن أن تلعبه في إطار النظام الإقليمي العربي جنبا إلى جنب مع أشقائها من الدول العربية وذلك في هذه المرحلة من بناء النظام العربي والوصول إلى الإصلاحات المأمولة سواء في منظمة جامعة الدول العربية أو في توجه السياسات العربية بصفة عامة نحو ترشيد الحركة والعقلانية في التطور والدقة في أداء الدور.
لقد أصبحت موريتانيا الجديدة تنظر بعيون قادرة على فهم لعبة السياسة الدولية والإقليمية في وطننا العربي الكبير واستوعبت الدبلوماسية الموريتانية الرئاسية لأول مرة، ، أهمية التحرك والوقوف إلى جانب القضايا العادلة في منطقتنا وفي العالم بعيدا عن انعدام الثقة في النفس والاقتصار على الدائرة الأصغر للعلاقات شبه الإقليمية.
إن تعبئة الموارد الداخلية وتوظيف القدرات الدبلوماسية، التي تدرك أهمية تنظيم المؤتمرات والاجتماعات والمشاركة فيها بحيوية ونشاط، ووضع علاقات البلد الخارجية في سياقها المناسب لخدمة المصلحة الوطنية ولنصرة القضايا التي تمس، موريتانيا وتلك القضايا العادلة التي شكلت الخط الرئيسي للرؤية السياسية الدولية والإقليمية للبلد، هي أمور تشكل أولا واجبا وطنيا وثانيا يمكن أن تستخدم لخدمة الشعب الموريتاني وتنميته وانفتاحه و انخراطه في العملية السياسية الخارجية بوعي واقتدار وبراغماتية وواقعية.
تعرف الموريتانيون اليوم على أشقائهم عن قرب ومباشرة دون الحاجة إلى مذياع أو تلفاز كما كان يقع في السابق واكتشف الأشقاء العرب بلدهم وأهلهم في هذه الربوع، وأزعم اليوم أن الموريتانيين، بعد الزخم الذي صاحب التئام اجتماع القمة في نواكشوط، قد تجددت ثقتهم في وعيهم بهويتهم العربية ومكانتهم على خريطة المنطقة وفي إقليم الوطن العربي بل وفي العالم بصفة، وأصبحت الرؤية واضحة لدينا بعد أن بدأت السياسة الخارجية لموريتانيا تتصالح مع ذاتها وهوية شعبها بدون أن يحدث ذلك بشكل عاطفي غير محسوب، بل على نحو تمتزج فيه تلك النظرة المثالية والعاطفية بوعي المصلحة الوطنية وضرورة تسخير كافة الإمكانيات والفرص التي تلوح في أفق وواقع السياسة الدولية لخدمة تنمية البلد والاحتكاك المباشر بالمحيط العربي من البحرين إلى موريتانيا.
من المعلوم أن العلاقات الدولية اليوم في عصر القرية الكونية الصغيرة وفي هذه الحقبة بالذات لعبت فيها دول "صغيرة" نسبيا أدوارا كبيرة جدا بفضل ذلك الطموح والنشاط وبفعل الاستقرار السياسي والمناورة السياسية والرؤية الثاقبة للقادة السياسيين في هذه البلدان، ومثال ذلك اليوم موجود لدينا وفي دول الخليج العربي وفي قلب الاتحاد الأوروبي، وتشير الدراسات المتوفرة إلى أهمية ودور السياسيات الخارجية لهذه الدول في قضايا شبه إقليمية وإقليمية وتضخم مكانتها وأدائها لأدوار كبيرة في حقل السياسة العالمية خاصة إذا ترأست اجتماعات أو منظمات أو إذا كان التصويت يتم بصيغة الإجماع أو المشاركة في وضع جدول الأعمال أو ما إذا كانت أيضا فكرة المؤسسية مستقرة ومتأصلة في العمل المشترك للمنظمات والهيئات المعنية.
إننا نتفاءل بأن هذه القمة المباركة يمكن أن تعيد الحيوية للجسد العربي والعمل المشترك وللنظام العربي، وتبعث الأمل في بناء الكيان العربي برمته والنظر في دوره الإقليمي والدولي من جديد وتفاعله مع التطورات في العالم من حولنا وتفعيل الدور العربي سواء من خلال دبلوماسية القمة أو عبر دور المنظمات والدول العربية سواء على شكل جماعي أو فردي.
انعقد المؤتمر ونجحت القمة من الناحية المادية والمعنوية ومن الناحية الدبلوماسية والسياسية، إن هذا النجاح لم يكن مسألة سهلة ولكنه تحقق بفضل الله بتمكن و سلاسة، وقد كسبت بلادنا رهان كان الكثيرون من المشككيين والمثبطين والمغردين خارج السرب يغمزون ويلمزون ويشيرون من طرف مكشوف بأنها لن تنجح ولن.... ولن.... وس....، وكما أسلفنا فإنه بالإرادة وبالكادر البشري المناسب والرؤية الوطنية الثاقبة المتصالحة مع ذاتها وهويتها يمكن تحقيق الكثير.
لم يسجل خلال أسبوع من تحضير وتنظيم القمة ولله الحمد حادث يمكن أن يعكر صفو وجو الاجتماع العربي الكبير في ظل الخيمة الموريتانية الوارفة، بل إن الضيوف الأكارم والمشاركين سجلوا بالصوت والقلم والصورة ارتياحهم واعتزازهم وأحيانا وصل الأمر إلى حد الاعتذار من بعضهم بلطف عن عدم القيام بزيارة هذا البلد الشقيق من قبل لما فيه من أشياء وبشر يستحقون الزيارة والاقتراب منهم.
إن مبادرة رئيس الجمهورية الشجاعة وعلو همته وتصميمه كانت كلها أمور واضحة وحاسمة لكل من تابع أو راقب الموقف منذ البداية. فمنذ قبوله اقتراح استضافة هذه القمة إلى تصريحه وتصميمه على فكرتها بتنظيمها ولو تحت الخيام،وما تلى ذلك من تأمين ودقة وقدرة لطواقم العمل الحكومية والفنية واللوجستيكية والتي أدارت بنجاح استقبال وإقامة ومعيشة ضيوف موريتانيا الكبار كلها مؤشرات بينة على العزيمة والحسم.
مبروك لموريتانيا ومبروك لرئيس الجمهوية هذا الأداء القوي للدور وللشعب الموريتاني المعتز بعروبته وبإسلامه وإفريقيته وإنسانيته والمنفتح على الخارج والمساهم بشكل إيجابي في مصيره والواعي بقضاياه الوطنية والخارجية بشكل موضوعي ومتوازن وعقلاني. ونتطلع إلى سنة من العمل العربي المشترك البناء في خدمة القضية الفلسطينية والقضايا العربية والإفريقية والدولية ولترميم وإصلاح واقع بعض الدول الشقيقة بعد آثار ما سمي خطأ "الربيع العربي" في ظل رئاسة فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد عبد العزيز لبيت العرب الكبير.