"قمة الإنصاف" العربية في انواكشوط لم تجد من ينصفها ويقيمها تقييما موضوعيا يحدد بتجرد نقاط النجاح فيها ونقاط الضعف إلا من رحم ربك {وقليل ما هم}. ذلك أن جل المحللين لا ينطلقون من واقع الحدث نفسه بقدر ما ينطلقون من مواقع وقناعات سياسية تفضي إلى أحكام مسبقة قد لا تكون لها
علاقة بالواقع أصلا. أضف إلى ذلك انتماء جل "المتكلمين" في الشأن العام إلى الجيل البائد من تكنولوجيا الألوان: أبيض وأسود.
وإذا ما حاولنا تجاوز التحليلات المنحازة والأحكام المسبقة حول هذا الحدث، وانطلقنا من الحدث نفسه في صعوده وهبوطه فسوف نتوصل - لا محالة- إلى نتائج طيبة يمكن تلخيصها كالتالي:
أولا: أن موريتانيا التي لم تكن مرشحة ولا مهيأة لاستضافة القمة العربية السابعة والعشرين، قد هيأت نفسها لذلك على مختلف الأصعدة في زمن قياسي، وكسبت الرهان، ونجحت في الاضطلاع بالمهمة الجسيمة التي أسندت إليها. ويتجسد هذا النجاح الكبير في تحقيق الشروط الأربعة التي حددتها في مقالي "قمة الإنصاف" وهي: الأمن، والنظام، وكرم الضيافة، والوحدة الوطنية. فلقد تحققت هذه الشروط الأربعة باعتراف وشهادة وإعجاب وتنويه الجميع. وهذا فضلا عن كون أخطر تلك الشروط وأكثرها حيوية في الظرف الدولي والإقليمي الذي نعيشه - وهو "شرط الأمن"- يعتبر توفره وحده - دون غيره- معيارا لنجاح موريتانيا في استضافة القمة. وبما أنه لم يسجل أي خرق أو تهديد أو تجاوز حتى ولو كان لفظيا خلال أيام انعقاد القمة من شأنه أن يخدش سكينتها ووقارها، فإن ذلك يعتبر بحق نجاحا منقطع النظير يذكر ويحمد ويشكر. وهذا العامل هو ما ركزت عليه وأكدته عن وعي عشية انعقاد القمة فقلت: "إن الأمن في هذه المرحلة من تاريخ العالم هو الضمان الأول والأخير لأي نجاح كان.. فبتوفر الأمن تنجح القمة أيا كانت النواقص والاختلالات الأخرى، وباختلاله - لا قدر الله- تعتبر القمة فاشلة مهما كان.
ثانيا: أن موريتانيا التي لم تكن مرشحة ولا مهيأة لاستضافة القمة العربية السابعة والعشرين في ظرف دولي وعربي مضطرب وعصيب؛ والتي تتعرض لا محالة - كغيرها من دول الأطراف النامية- لمختلف الضغوط من الأصدقاء قبل الأعداء، قد حققت أيضا نجاحا منقطع النظير تجلى في قيادتها الحازمة لمؤتمر القمة؛ حيث حددت في خطاب رئيسها الافتتاحي الأولويات التي تريد أن يتمحور حولها عمل القمة. وقد تمحور حولها فعلا. وهي ما لخصته هذه الفقرة البليغة من الخطاب: "إننا نواجه اليوم تحديات كبيرة على رأسها إيجاد حل عادل ودائم لقضية العرب المركزية؛ القضية الفلسطينية، والتصدي لظاهرة الإرهاب، وإخماد بؤر التوتر والنزاعات التي تذكيها التدخلات الأجنبية في الدول العربية. كما يشكل تحقيق تنمية مستدامة ومندمجة على الصعيد العربي رهانا حقيقيا لتستعيد أمتنا المكانة الرائدة التي تبوأتها بين الأمم خلال الحقبة الذهبية من تاريخها".
لقد حالت قيادة موريتانيا إذن للقمة دون انحطاطها كما انحطت قمم أخرى قبلها في وحل التجاذب العقيم والتدابر والتخوين التي قلما تنجو منها قمة - أو قاعدة- عربية في هذا الزمن. وهكذا تم التأكيد على محورية قضية فلسطين بصفتها قضية العرب الأولى، وتبني مكافحة ظاهرة الإرهاب، وإخماد الفتن الداخلية، وحل النزاعات بالطرق السلمية وحدها، والعمل على تحقيق تنمية مستديمة ومندمجة. وفي هذا الإطار العقلاني: ظل مقعد سوريا شاغرا خلافا لما سعى إليه البعض، وهذا أضعف الإيمان. وخلا البيان الختامي من أي اتهام أو إدانة للمقاومة، وورد ذكر شقيقة العرب وجارتهم إيران بصورة عابرة. وبذلك مثل بيان انواكشوط نقلة في عمل الجامعة العربية نرجو أن تكون بداية صحوة تعيد الأمل إلى شعوب الأمة وتؤسس لجمع شملها والنهوض بها. ولم يحو أبدا ما من شأنه أن يشكل وصمة عار في جبين بلادنا ومعرة يذكرها لها التاريخ. وهذا نجاح منقطع النظير للدبلوماسية الموريتانية ولقائد القمة الرئيس محمد ولد عبد العزيز.
ثالثا: وإذا كانت موريتانيا قد نجحت في اختبارها، فإن الجامعة العربية قد نجحت هي الأخرى. فلقد عقدت قمتها بنجاح، ووضعت في نواكشوط أسسا جديدة للعمل العربي (انظروا بيان انواكشوط) من شأنها - إذا تمت مراعاتها وتفعيلها- أن تخرج جامعة العرب والعرب من "قمة الانحطاط" التي وصلوا إليها، وترتاد بهم آفاق النهوض والتحرير وقهر الإرهاب فالبناء والوحدة. ولا شك في أن قيادة الرئيس محمد ولد عبد العزيز التي سبق أن جربت ونجحت في موريتانيا وفي إفريقيا، وإدارة السيد الأمين العام أحمد أبو الغيط المتحمس والمجرب والواعد بالشفافية والنشاط، سوف تحقق النتائج المرجوة وتؤسس لاجتياز خطوات مهمة نحو ما تصبو إليه شعوب الأمة العربية.
وإذا كان من نقص – وقد كان- في هذا المجال، فإنه يكمن بالتأكيد في ضياع اللغة العربية؛ إذ كيف تنهض وتتقدم أمة لا تتكلم غالبية قادتها لغتها الجميلة الغنية الحية، لغة القرآن العظيم والحديث الشريف، ولغة المتنبي وأبي تمام وجرير والفرزدق أيضا.
تبقى كلمة ختامية تتعلق بموريتانيا؛ وهي أن نؤكد على أن لا يكون نجاح القمة العربية نهاية، بل بداية كما نبه على ذلك بحق أحد كتابنا الأفاضل؛ وأن يتجلى ذلك أساسا في الاتجاهات التالية:
سيادة القانون، ومحاربة وقهر الفساد، وإضفاء صبغة جمالية على مدننا الكسيحة (أرأيتم كيف تنفست انواكشوط وانواذيبو؟) وعلى حياة شعبنا الكريم الذي لا يستحق إلا الحب والتقدير والاحترام.