نظرة في أحكام القضاء المحلي قبل نشأة الدولة الحديثة / محمد المصطفى ولد محمد سالم

"وأما خطة القضاء فبلادنا خالية من حقيقتها لأن قضاتنا وإن رفعوا الخلاف شرعا فالتنفيذ معدوم ولا يتم الحكم دونه أي لا تظهر له ثمرة ....." (1)
بتلك الكلمة يلخص الشيخ محمد المامي اليعقوبي (ت 1282 هـ ) حالة القضاء في هذه البلاد في عصره حيث تغيب السلطة المركزية ويتبعها ويضيع معها ما يترتب عليها من الأحكام السلطانية والخطط الحكمية .

غير أن هذه الصورة لم تكن شاملة زمانا ولا مكانا أو لم تكن بهذه الدرجة من الخلو كما سنرى ، بل كان الناس يلجؤون إلى الفقهاء وأهل العلم كلما ادلهمت المشكلات واستعصت المنازعات راضين بحكمهم في عصمهم وأموالهم وفي دمائهم أحيانا ، فقد يأتي ذلك على شكل قضاء وقد يأخذ شكل تحكيم يفض النزاعات ويتراضي الطرفان بنتيجته .
وقد أثار بعض الفقهاء السؤال حول طبيعة من يسمى "قاضيا" في ذلك الزمن مع غياب سلطة موحدة تنصبه ، ورأى بعضهم أن هؤلاء مجرد محكّمين يشترط تراضي الطرفين باللجوء لهم ولا يعتبر من امتنع من الترافع إليهم مُلدًّا ، واعتبر آخرون أن ما يسمونه أحكاما داخل في حدود الفتاوى ليس إلا ، غير أنا نجد الأغلبية الساحقة من الفقهاء يعتمدون تعريف القضاء بأنه "صفة حكمية توجب لموصوفها نفوذ حكمه الشرعي …" ويأخذون بقول القرافي في شرح ذلك : الحاكم من حيث هو حاكم ليس له إلا الإنشاء وأما قدرة التنفيذ فأمر زائد على كونه حاكما فقد يفوض له التنفيذ وقد لا يندرج في ولايته . (2) ، وبالتالي فهم يميلون إلى الاعتراف بهذه الشرعية ويأخذون بمقتضاها – مع بقاء لبس في بعض القضايا هل هي قضاء أو تحكيم – ومن هؤلاء العلامة سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم  (تـ 1233 هـ) والشيخ محنض بابه بن اعبيد (تـ1277هـ) وغيرهما إذ أصدروا فتاوى تبين أن تولية القضاء في ظل تلك الحالة تأتي على وجهين :
أحدهما : تولية السلطان أو الأمير لشخص بعينه للمنصب وإلزام  الناس بحكمه فيستمد شرعيته ونفاذ حكمه من سلطة الأمير المتغلب .
والثاني : نصب جماعة المسلمين له إما صريحا أو التزاما بأن يروا الناس يذهبون إليه المرة بعد المرة فلا ينهونه ولا الذاهبين إليه .(3)
وربما جمع القاضي بين الطريقتين كما جرى للطالب أبي بكر بن الحاج احمد بن اند عبد الله الولاتي (تـ 1208هـ) الذي تولى القضاء "بأمر من مولاي زيدان بن مولاي أحمد وبترتيب أهل الحل والعقد من أهل ولاته ، بعد الإباية وهو له كاره " (4).
وقد حفظت لنا كتب التراجم أسماء المئات ممن كانوا يقومون بهذه الخطة الجليلة إلى جانب التدريس والتأليف والإفتاء برضا وإذعان من الجميع في كل مدينة ومحلة وحي .
كما تحفظ لنا التراجم صورة عن قوة القاضي آنذاك واستقلاليته أمام ذوي السلطة والشوكة ، ومن تلك المواقف أن القاضي العلامة أحمدّ بن محمد عبد الرحمن بن الخراشي (ق 14هـ/20 م) هدده أحد أمراء منطقته إذا حكم عليه في نزاع مشهور، فرد بأن القاضي لا يحكم بغير الحق إلا لطمع وأنا أكثر منك مالا أو لخوف وأنا أقوى منك قبيلة ، ثم حكم عليه .
ورفعت إلى السالك بن بابا العلوي (تـ 1333هـ) قضية تتعلق بأحد أمراء زمانه وفرسانهم الأشداء  قال إنه سيقتل من يجرؤ على الحكم ضد هواه فقال القاضي لقومه : اشغلوه عني حتى أفرغ من تحرير الحكم وليقض بعد ذلك ما هو قاض ، وحين صدر الحكم لم يكن من الزعيم الحساني إلا أن رضخ للحكم وأذعن لسلطة القاضي.(5) 
لقد مارس فقهاؤنا القضاة في إطار هذه السلطة كل الإجراءات والأعمال القضائية والولائية التي يتطلبها المنصب ، ولا تفتأ في ثنايا كتب النوازل والفتاوى تجد أحكاما قضائية متناثرة بين الفتاوى ولكنها متميزة عنها بطابعها الإجرائي والإلزامي ، وهو ما نلفت الانتباه إلى طرف منه في هذه السطور. 
شكلية الحكم القضائي :
ليست هناك شكلية ثابتة للأحكام ولا محتوى موحد فلكل قاض نظره في العناصر المكونة لحكمه والمحتويات التي يراها ضرورية لتشييد بناء الحكم ، وإن كان الأغلب أن تبدأ الأحكام بعبارة "ترافع إلي فلان وفلان " وتنتهي بعبارة " فحكمت بـ .... " فقد يأتي الحكم مشتملا على وصف مستوف للوقائع ودعاوى الطرفين ومستند كل منهما وأسماء الشهود وصفاتهم مع التنصيص على الإعذار فيهم وذكر الآجال الممنوحة للبينات ومتضمنا النصوص الفقهية التي تشكل حيثيات الحكم ، وقد يختزل بعض القضاة هذه الإجراءات اختزالا اعتمادا على ثبوت ذلك عنده وعدم الضرورة لذكره في الحكم ، وقد نعى الفقيه سيد ولد حين الجكني (توفي 1937 م ) على قضاة عصره هذا الاختصار المخل مبينا المكونات التي يجب أن يتضمنها الحكم في قوله :
هذا ومن مذاهب التخمين -- ما شاع في قضاة أهل المَين
من قولهم شهد عندي وكذا -- قد شهد العدول دون اسم خذا
بعد مراعاة الذي يراعي -- أجّلت وانقضى وما قد شاعا
وإنما يذكر دعوى الخصم كلّ-- وما له يحتاج من قول قبل
من بينات واسم من قد شهدا--  تعديله وجرحه فاعتمدا
أعذرت للخصم هنا وقد عجز-- ويذكر النص إذا الحكم نجز
هذا هو التصور المشروع -- هذا هو التصور المشروع

ثم في الختام يأتي منطوق الحكم بشكل مركز المعاني في ألفاظ محددة صارمة الدلالة لا تدع أي لبس ولا تقبل أي تأويل.
الأدلة والمثبتات :
يعتمد القضاة الفقهاء في أحكامهم على ما يقدمه الخصمان من المثبتات المتاحة على مقتضى الحديث "البينة على المدعي واليمين على من أنكر " فيستمعون للشهود ويقارنون بين أقوالهم ويسجلون في الأغلب أسماءهم وتعديلهم في نص الحكم مع تركيزهم على أن لكل زمان ولكل مجال عدوله ، وتكميلا لذلك يستكثرون منهم حتى يصل الأمر إلى المستفيضة التي لا إعذار فيها عند المالكية ، وأحيانا كثيرة يذيل الحكم بعبارة " وقع ذلك بمحضر جمع كثير منهم فلان وفلان " وهذا نوع من الإشهاد على وقائع جلسة الحكم وما جرى خلالها حتى لا يتطرق إليها طعن أو تشكيك، ويعملون كل القرائن والأيمان المعروفة كيمين القضاء ويمين الاستحقاق .
ولا يعدم القضاة المحليون خصوصيتهم في هذا الباب أخذا من واقع مجتمعهم وبيئتهم فقد حكم الشيخ باي بن سيد أعمر الكنتي (تـ 1347 هـ ) في نزاع على بكرة معتمدا على الميسم الذي تحمله لصاحب الميسم المعروف به ، قائلا إنه شاهد قائم مقام الشاهدين على ما أطبق عليه علماء المغرب الأقصى ، وذكر أن محمد المختار بن الأعمش ألف في إثبات ذلك رسالة .(6) ، وذهب الشيخ محنض بابه إلى أن الوسم الخاص بشخص أو قبيلة يقضى به وينزع به ما بيد مدعيه صريحا لا احتمال فيه ، وقصر آخرون حجيته على اللقطة دون الاستحقاق .(7)
الإنهاء :
لم يكن هناك اختصاص نوعي ولا ترابي للقاضي فهو ظاعن مع الحي أو الحلة واختصاصه منعقد في كل ما رفع إليه وحيثما حل وارتحل .
وقد عمل القضاة الفقهاء نظرا لتباعد البلدان ولدواعي التنقل والترحال الدائبين بمبدأ الإنهاء - وهو تبليغ القاضي حكمه أو ما حصل عنده مما هو دونه كسماع الدعوى لقاض آخر لأجل أن يتمه - فقد أنهى القاضي محمذن ولد محمد فال ولد أحمد العاقل ( تـ 1386 هـ) إلى القاضي محمد بن البراء شهادة الشهود الثابتة عنده على أن "فلانا" باع تبيعة بقر غائبة عن مجلس العقد وقد تقادمت رؤية البائع لها ولم تتقدم للمشتري رؤيتها فحكم المنهى إليه برد هذا البيع . (8)
الصلح :
وبالإضافة إلى مهمة فض النزاعات فإننا نرى القضاة آنذاك يؤرقهم هاجس السلم والأمن الاجتماعي وخصوصا بين الأقارب وذوي الرحم ، لذلك يسعون إلى إجراء المصالحة بين المتنازعين حتى ولو تمحض الحق لأحدهما ، فقد رفعت إلى الفقيه محمد الامين بن الصبار البوصادي (ت 1360 هـ ) دعوى من طرف رجل ادعى على أختيه في قطيع من الحمر فحكم بسقوطها لتناقضها وعدم تقديم ما يثبتها وبثبوت ملكية اختيه للقطيع محل النزاع ، ومع ذلك أمر الطرفين بالصلح وحكم عليهما به تبعا لقول خليل : وأمر بالصلح ذوي الفضل والرحم . (9)
وقد يُشكل الحكم لانعدام مستند لأي من المتنازعين وهنا يصبح لزاما على القاضي أن يحسم في الأمر بما يمنع النزاع ويسد باب الفتنة رعيا للمصالح ، ففي نزاع بين أم وابنها حول أينق يدعي هو تعميرهن عليها وتدعي هي تعقيبهن حكم القاضي اعل ولد محمد امبارك (أحد قضاة منطقة البراكنه ) بقسمة النوق بين التعمير والتعقيب قسمة بت  "بحيث تصير كل من الجهتين على حكمها في النظر" وهذا كما قال "بعد المرافعة وإشكال الحكم وتفاقم الامر " وأكد الحكم من طرف محمد احمد بن الطالب ابراهيم التاكاطي . (10)

الحيثيات والأسباب :
تشكل الحيثيات والأسباب العمود الفقري الذي يقيم حقيقة الحكم القضائي أيا كان ، ويبث فيه الروح ويربط بين مقدماته وفقراته بشكل منطقي منتج يلقي الضوء على الوقائع ويجلي مآخذ الحقوق ومقاطعها ، وتستمد الحيثيات بالأساس من أمرين :
- تقرير الوقائع المكونة لطبيعة النزاع وما أنتجته مقارنة دعاوى الخصمين وأدلتهما من قناعة لدى القاضي .
- تقديم النصوص والقواعد الفقهية المستنَد إليها وإثبات مطابقتها للوقائع وتنزيلها عليها.
وسنأخذ هنا مثالين نتبين منهما كيف تعامل القضاة مع هذه الجوانب النظرية والعملية :
الأول : للقاضي البراء بن بكي الديماني (تـ 1336هـ) في شأن قطيع بقر مملوك للمسماة أم الخيرات يعيش المسمى عبد الله في غلته ويقوم بشأنه ورعايته كما يتولى إسكانها هي والقيام عليها ، فرفع عبد الله المذكور الدعوى طالبا حقه في القطيع ، وبعد التأكد من ثبوت الصفة للمترافعين وشهادة الشهود أن ما كان يقوم به بنية الرجوع به لا بنية التبرع ، كلف أهل الخبرة والاختصاص بتقدير قيمة ما قدم لها وللقطيع من الخدمة والرعاية وما استفاد هو من غلته ، فجاءت الخبرة بثلاث تقويمات متفاوتة لقيمة الإسكان فجمع التقويمات وقسمها على 3 وأخذ ثلثها ، وأخذ ربع التقويمات الأربع التي قومت بها تربية العجول من ماله ، ونصف تقويمي قيمة السقي والتداوي ، وثلث التقويمات الثلاث لطلب الضوال ، هذا من جانب المدعي ، وأما من جانبها هي فقوم لبن 52 بقرة فجاءت الخبرة بسبع تقويمات فقسمها على سبعة وأخذ حاصل القسمة ونزع منه نفقتها وكسوتها ، وهو في كل ذلك يقول : ولم يقوم لي مقوم إلا من أقمته مقامي في ذلك من الجانبين ، وبعد الإعذار في التقويمات والمقومين وعدم تقديم أي مطعن فيها توصل من خلال هذه الطريقة إلى النتيجتين فحكم "بأن يسقط أقلهما من أكثرهما ومن بقي له شيء لزم الآخر". (11)
الثاني : حكم لأحد قضاة ولاته غير مسمى ونقْضه للقاضي القصري بن عثمان الإديلبي (ت 1235هـ) وملخصه دعوى محمد عبد الله أن أخاه المتوفى التزم بتحفيظ القرءان لصبي يتيم مقابل 5 أحقاق إبل ودراعة ديماسية وسراويلها وأحايك ، ورد المدعى عليه - الذي زعم أنه وصي على اليتيم -ان الأجرة كانت 4 أحقاق وكسوة متوسطة ، ولم يقم أي منهما بينة على دعواه فحكم لصالح المدعي بيمين على طبق دعواه معللا حكمه بما يلي :
- أن الطرفين مشبهان فيما ادعيا من خلال المقارنة بين الأجر والعمل وعادات الناس في البلد.
- أن الصبي واقع تحت حيازة المعلم وموجود في داره لا يخرج عنها إلا وقت الاستراحة ، وهو ما يقوي جانبه ويجعله حائزا مدعىً عليه .
- قول خليل في الحالات التي يصدق فيها الأجير : والقول للأجير ....إلى أن قال : أو خولف في القدر والصفة إن أشبه وحاز .
تصدى لهذا الحكم القاضي القصري فنقضه من وجوه كثيرة كما يقول وساق كلام الفقهاء بذلك أهمها :
- أنه حكم على يتيم قبل ان يثبت عنده بأن المدافع عنه وصي كما يثبت ذلك قوله : زعم أنه وصي .
- انه حكم بعد رجوع القائم عن اليتيم عن تحكيمه في القضية وهذا يجعله محكما لا قاضيا والمحكم يلزم بقاء الطرفين متراضيين على حكمه حتى صدوره كما صدر به خليل وطوى مقابله في قوله : وهل يشترط دوام الرضا في التحكيم للحكم قولان ؟
- انه حكم على اليتيم دون إلزام المدعي بيمين القضاء ، وهذا من موجبات النقض لقول خليل : والبعيد جدا (ومثله اليتيم) يقضى عليه بيمين القضاء ... وإلا نقض.
- أن الشبه الذي ذكره لدعوى المدعِي وحكم له على أساسه باطل ، "إذ لا يُرى أحد من أهل البادية او الحاضرة غنيا او فقيرا يؤاجر على حفظ ابنه بهذا القدر" ، وإنما المشبه حقا دعوى ولي الصبي كما يعرفه من له معرفة بهذا الباب ، وحينئذ فالمنطبق على النازلة قول الأجهوري : فإن لم يشبه الصانع فالقول لربه بيمينه ، ويستدرك القصري ان الولي هنا لا يمين عليه أيضا طبقا للقاعدة المذهبية " لا يحلف أحد ليستحق غيره " (12).
في الميدان الجزائي :
لقد حاول قضاة تلك العصور شعورا منهم بالمسؤولية واستغلالا لعلاقاتهم بالأمراء الحاكمين أن يقيموا الحدود ويفرضوا سلطتهم القضائية على الجناة والمحاربين ، فكان الشيخ محنض بابه بن اعبيد يرى على نفسه ما على الإمام الأعظم من تنفيذ الأحكام وأخذ الحق من الظلام فحيث وجد يدا إلى قصاص من قاتل أو قتل محارب أو تعزير عاص بادر ، وقد قام بتطبيق الحدود فعلا في عهد الأمير محمد الحبيب .
وحدث أن رجلا قتل آخر  من قبيلة (بني فلان) فسار  وفد من أهل بارك الله بقيادة أحمد يعقوب بن محمد بن أعمر يطلب القصاص فطلب منهم رئيس قبيلة القاتل الاكتفاء بالدية المغلظة فرفضوا الاقتراح ، فما كان من زعيم القبيلة إلا أن سلم لهم القاتل فطلب الوفد من الزعيم أن يتولى بنفسه تنفيذ القصاص في ابن عمه ففعل (13).
وتظل تلك الجزئيات حالات شبه معزولة لا تمثل التيار العام ، فقد أدرك الفقهاء من قديم أن هشاشة النظام الأميري المتغلب وتحكم النزعة القبلية البدوية في السكان يحتم عليهم تعطيل أو تعليق حد القصاص – وغيره من الحدود - والاستعاضة عنه بالدية لأن محاولة تنفيذه تفتح أبوابا من الفتن وتثير النعرات بسبب التناصر القبلي ، مما أدى إلى "ذهاب حد القصاص بالفعل، فإذا وقع القتل العمد فإنه يصعب الانقياد فيه إلى القود، فإما أن يتفقوا على دية، وإما أن يتحاربوا" (14) .
ولم يكن فقهاء تلك العصور - مع التزامهم المذهبي الكامل وتجافيهم عن دعوى الاجتهاد – يهملون النظر إلى الواقع والتعامل بالممكن وإن خرج عن جادة المذهب، لذلك نرى المفتين والقضاة يتعاملون مع هذا الباب بكثير من الواقعية بل بروح اجتهادية تبتعد عن حرفية النصوص السائدة وتجنح إلى المقاصد فيقررون :
- وجوب الدية في قتل العمد ،
-  وضربها على عاقلة الجاني ،
- وإجبار أولياء المقتول على قبولها ،
وهذه الثلاث خصائص القتل الخطأ ، ولكنهم يعللون الأول بـ"أن العمد صار كالخطأ بمقتضى السياسة الشرعية التي لا يجوز التعويل على غيرها في هذه البلاد السائبة لأن القصاص فيها يؤدي للقتال " ، ويستدلون للثاني بـ"تعذر أخذ الدية  من مال الجاني وحده ، وبأن ضرر ضرب الدية على عاقلته أخف مما يترتب على امتناعهم منها، وبأن العاقلة لما حملت دية جراح العمد التي سقط القصاص فيها كالجائفة لخوف إتلاف نفس الجاني بالقصاص فمن باب أحرى ان تحمّل دية ما سقط لخوف إتلاف نفوس كثيرة بالفتنة " ، ويستندون في الثالث إلى أن "أولياء المقتول لا يرضون بإهدار دم صاحبهم وقد تعذر القصاص فصارت الدية هي غاية المقدور عليه " ، أفتى بذلك الشريف حمى الله التيشيتي المتوفي 1169هـ  وقال "إن عليه العمل في هذه البلاد من قديم الزمان" ، والقاضي سنبيرُ الأرواني (تـ 1180هـ) والقاضي القصري وغيرهم (15).
وكانت إجراءات البحث والتحقيق في الجرائم والتحفظ على مرتكبيها تتم بسرعة فائقة نتيجة بساطة القضايا والأساليب إذ ذاك "فعندما تقع جريمة ويتم إبلاغ الأمير بها فإنه يستوقف الجاني ويفرض عليه غرامة جنائية قبل أن يحيله إلى قاضيه ، وعندما يحيله إليه يبدأ في بحث القضية ويعطي موعدا للأطراف وفي اليوم المحدد سلفا يستمع إلى الطرفين وبعد ذلك يقوم بإصدار الحكم ويكون الحكم في هذه الحالة نهائيا " (16).
وفي هذا الصدد ترافعت إلى القاضي القصري بن المختار  محلة "س.ب"  وجماعة من "أ" في شأن قتيل مات من مأمومة وقعت له في مضاربة بين الفريقين ، ادعى الفريق الأول ان الجماعة الأخيرة هم الذين ضربوا القتيل وعينوا من ضربه منهم ، ولما لم تحضر بينة من غير الطائفتين مع إقرارهما بالمضاربة وكان القتيل من صف "أ" حكم ببراءتهم من الدية لكونه من طائفتهم وهذا إعمال للقرينة القوية "لترجح جانبهم بالعادة لأن الغالب أن القاتل له من غيرها لأنه منها " أخذا من الموطأ وغيره من أمهات المذهب ، ولم يكن القصري يعتبر نفسه محتسبا ولا متعهدا إلا فيما رفع إليه ونشر أمامه من النزاعات ، لذلك لم يحكم على "س.ب"  بالدية ولا بسقوطها بل قال إن ذلك يتوقف على حضور ولي الدم وعلى أيمان القسامة .
أخذت جماعة "س.ب"  من نفي الدية عن "أ"  أن ذلك يوجبها عليهم هم فرفعوا الأمر إلى سيد عبد الله بن الحاج إبراهيم فحكم بنقض الحكم غير أنه لما قرأ نص حكم القصري المطول وحيثياته رجع عن النقض وأكد الحكم كما سلمه الشيخ سيد المختار الكنتي وغيره (17).
نقض الأحكام وتأكيدها :
نجد بعض القضاة يُعذر في نفسه للخصوم تورعا وطلبا لبراءة الذمة فيبعث بحكمه إلى قضاة القطر يقول لهم : انظروا هذا الحكم فان كان فيه مطعن فبينوه وإن كان موافقا للصواب فسلموه ، وقد يتظلم المحكوم عليه فيطعن أمام قاض أو قضاة آخرين فيتعهد بالموضوع ويبين وجه النقض فيه معتمدا على نقول الفقهاء المعتمدة ، وقد لا يكتفي من حكم لصالحه بالحكم "الابتدائي" بل يسعى إلى تأكيده وتحصينه من الطعن .
وتعكس المسارات التي تسلكها هذه الأحكام تأكيدا ونقضا مدى قوة التواصل العلمي والانسياب المعرفي بين الأقاليم رغم بعد الشقة وضعف وسائل المواصلات ، ويكفي للتدليل على ذلك نازلة "أرض المداح" بآدرار التي دوخت البلاد وكتب فيها أربعة قضاة من منطقة اركيبه وخمسة قضاة من منطقة تكانت وقاضيان من منطقة الحوض ، وكان كل هؤلاء القضاة من طبقة واحدة تقريبا في منتصف القرن 13 هـ .(18)
ورفعت إلى القاضي الأمين بن الماح الديماني (ق 12هـ) قضية شخص ضرب آخر مأذونا له في تأديبه فألقى المضروب نفسه في بئر فرارا من الضرب فهلك ، فحكم بعدم لزوم الدية للضارب ، وعلل الحكم بأن الهالك لم يشاركه أحد في إزهاق روحه وبالتالي فإن الضارب لم يتسبب ولم يباشر ، وأجاب عن قياس ذلك على "من أشار إلى آخر بالسيف فهرب وهلك" بأن ذلك هرب من آلة معدة للقتل بخلاف هذه القضية .
وقد أكد هذا الحكم أحمد بن محمد العاقل قائلا إنه لا يمكن تعقب حكم العدل العالم ، وكذلك حرمه ولد عبد الجليل العلوي وأحمد بن الطالب أجود الحاجي معللا بأن الإلقاء في البئر لا ينشأ عن الضرب غالبا فلا يكون سببا له (19).
ونرى أن القاضي آنذاك يعتمد في نقض الأحكام على وقوعها في واحدة من الحالات الأربعة المنظومة في قول أحد الفقهاء :
إذا قضى حاكم يوما بأربعة – فالحكم منتقض من بعد إبرام
خلاف نص وإجماع وقاعدة – ثم قياس جلي بعد إفهام
من أمثلة ذلك نقض القاضي المختار سالم بن احميدي الحسني (تـ 1375 هـ) حكم القاضي محمد محمود بن محمودا الحسني الذي حكم برد بيع بقرة أتي على بيعها 20 سنة وصار نسلها قطيعا لما شهد عنده عدلان أنها حبس وأن ملاكها الأيتام في غنى عن بيعها ، فبين المختار سالم وجه النقض وهو أنه اعتمد على شهادة شهود سكتوا على بيع الوقف عشرين سنة وهذا من المجرحات لأنه شهادة في محض حق الله تعالى "وفي محض حق الله تجب المبادرة " وسلم محمد محمود النقض ورجع إليه . (20)
ثم إن النقض هو الآخر قد يتعرض للنقض ويكون ذلك تأكيدا للحكم الأول وهنا تحتك الأفهام وتزدحم الآراء ويظهر الأقوى في صناعة القضاء والأكثر تمرسا بشروط نقض الأحكام من خلال تقديم الدليل على فساد الحكم وتفصيل أوجه النقض فيه وهنا ينشد قائلهم :
تعلم شروط النقض يا مولعا به – وعض عليها إن أطقت لها عضا
ولا تحسبن النقض لفظ "نقضته" – ولا كل حكم شيد يستوجب النقضا
   "وربما مكثت القضية بهذا سنين حتى يتفق رأى العلماء فيها" (21).
ولهذا أمثلة كثيرة في باب الأحوال الشخصية وفي الأحباس والنزاعات العقارية ، ومن ذلك ما عرف بـ"نازلة أهل ييج وأهل الدوف" المشهورة التي تطاول أمدها وحكم فيها القاضي أبوبكر بن سيد بن حرم الديماني على الفريق الأول ببطلان الدعوى ، فنقض القاضي أبنو ولد المصطف الديماني حكمه ، فقام بنقض هذا النقض كل من عبد الرحمن بن محمذن فال التندغي ومحمد مختار بن عبدلل اليعقوبي والمختار ولد آلما اليدالي بإسهاب وتفصيل تجاوز عشرات الصفحات (22).
التنفيذ :
من الكلمات الذائعة في مجتمعنا القديم "الّ كال القاض ماض" وتجد هذه الكلمة مصداقها في أن الإنسان في المجتمع القديم في الغالب الأعم وبحكم عاطفته الدينية وخلفيته التربوية منقاد لحكم الشرع المترجم بحكم القاضي ولو كلفه غرم المال أو فسخ العصمة يستوي في ذلك المتعلم والعامي ، فهو إن حاول الخروج عن مقتضى حكم القاضي فإنما يكون على جهة الطعن فيه عند قاض آخر أو التماس إلغائه واستبداله .
يقول ابن الأمين العلوي : فإذا حكم القاضي فإن الحكم نافذ بنفسه، لا يقدر المحكوم عليه أن يمتنع، إلا إذا أوعز إليه أحد العلماء، بأن ذلك الحكم غير صحيح، فإنه يطلب نقضه(23) .
وقد سد هذا الانصياع الطوعي فراغا كبيرا تقوم به السلطة المختصة بالتنفيذ في عصرنا  الراهن ، ولم يكد يتخلف عنه إلا ما يتعلق بالدماء والقصاص كما قدمنا.
وخارج تلك الطرق كان الأمراء ذوو الشوكة في تلك العصور يولون من يثقون فيه من الفقهاء القضاء ويخضعون لتوجيهاته ويلتزمون بتنفيذ ما يصدر عنه ، مثل ما فعل الأمير محمد ولد امحمد شين أمير تكانت مع العلامة سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم الذي كان لا يقطع أمرا دونه ، وما كان من أحمد بن محمد العاقل الديماني الذي استقضاه أمراء الترارزه المعاصرون له وغيرهم كثير (24). ، فكانوا يجبرون المحكوم عليه على تنفيذ الأحكام بل على المثول أمام القضاء ، ينقل القصري حكما للقاضي انبوي بن القاضي محمد بن يدغور (ق12) فيقول : فحكم بلزومها (الدية) لجميعهم وذلك بحضور أولاد سيد أحمد ابن أبي سيف بن هنون لعبيدي لأنهم هم المطالبون والآخذون للدية ممن حكم عليه بها من القبائل والقاهرون لأهل ولاته على المرافعة في شأنها (25) .
وأحيانا يلجأ بعض القضاة إلى إقرار التسوية الواقعة عن غير قصد من الخصمين ويرى في ذلك تنفيذا لحكمه بدون انتزاع ما بيد الحائز منه ، ومن أمثلة ذلك منطوق حكم القاضي المختار فال بن إبراهيم فال البركني (نحو 1305 هـ) الذي يقول : حكمت بعد المرافعة على براءة آل التركزي من التبيعة التي كانت في ذمتهم لآل سدوم ، لما ثبت عندي أخذ آل سدوم بعيرا عوضا عنها بشهادة أحمد باب بن محمد المختار ومحمد سالم بن امين والشهود مبرزون. (26)
وكضمان لإذعان المحكوم عليه للحكم وتحسبا لعدم القبول به يلجأ القضاة إلى وسائل الضغط الاجتماعي ومراكز الثقل القبلي  ففي نهاية حكم بالصلح بين متنازعين آخرين يختم القاضي السالك بن باب العلوي بقوله : كتبه من أمضاه وأنفذه على محمذن فال ومعه أهل الحل والعقد من آل ألفغ الخطاط . (27)
وهكذا لم يقف القضاة التقليديون يوما موقف العاجز أو المقصر عن التصدي لما يطرح من قضايا ونوازل ، يحدوهم استشعار المسؤولية والغيرة على حدود الشريعة فيعوضون بإخلاصهم وورعهم وهيبتهم في النفوس ما تفتقده البلاد من سلطة وأنظمة قضائية متقدمة يتمتع بها الآخرون .
ومن هذه النماذج نأخذ صورة عن حالة هذا المرفق الهام في تلك العصور وكيف عالج الفقهاء قضايا الحياة والمجتمع في ظل الأوضاع السياسية والاجتماعية المتقلبة ، وهو ما نتوخى منه أن نستحث من رجال القضاء والفقه من يفرد هذه الأحكام ويستنطقها ليتبين القارئ عناصر الأصالة في هذه الأعمال الجليلة ، ولإبراز  ما احتوت عليه من مميزات كبيرة النفع في مجال صناعة القضاء والممارسة العملية للفقه القضائي واستخراج المبادئ والضوابط منها.


المراجع :
(1) الشيخ محمد المامي كتاب البادية ، طبع زاوية الشيخ محمد المامي  بانواذيبو  ص 115 .
(2) تبصرة الحكام لابن فرحون ج 1 ص 26.
(3) المجموعة الكبرى الشاملة للفتاوى للدكتور يحي بن البراء ج  11ص 5581
(4) فتح الشكور لمعرفة أعيان علماء التكرور - للبرتلى ط دار الغرب الإسلامي ص 82.
(5) بلاد شنقيط للخليل النحوي ص 315
(6) ابن البراء 11- 5651 وما بعدها
(7) نفس المرجع ج 11 ص 5854 وما بعدها  .
(8) نفس المرجع ج 9 ص 3917.
(9) نفس المرجع ج 9 ص 4322
(10) من خط الحاكم والمسلم (صورة منه بحوزتنا)
(11) ابن البراء 11/5576
(12) نوازل القصري صورة من نسخة بوي أحمد بن محمد بن الشريف حمى الله كتبت سنة 1250 هـ  ص 598 وما بعدها .
(13) الخليل النحوي ، بلاد شنقيط ص 317
(14) الوسيط في تراجم أدباء شنقيط لابن الامين العلوي ص 532
(15) نوازل الشريف حمى الله التيشيتي تحقيق الدكتور محمد المختار ولد السعد ص 363-364 . ونوازل القصري المخطوط السابق ص 623 – 624 .
(16) إسلمو ولد محمد الهادي موريتانيا عبر العصور ج 1 ص 213.
(17) نوازل القصري مخطوط ص 519- 520 .  
(18) مجموعة ابن البراء 11/5148 وما بعدها
(19) نفس المرجع ج 9 ص 4347 وما بعدها
(20) نفس المرجع ج 2 ص 154
(21) الوسيط ص 532
(22) مجموعة ابن البراء ج 11 ص 5596 وما بعدها
(23) الوسيط ص 532 .
(24) بلاد شنقيط للخليل النحوي ص 314 , وموريتانيا عبر العصور للأستاذ إسلم ولد محمد الهادي ج 2 ص 126 . وموسوعة ابن البراء (التراجم) ج 2 ص 55.
(25) نوازل القصري المخطوط ص 509
(26) مجموعة ابن البراء ج 11 ص 5646.
(27) المرجع نفسه 11/ 5648
 

 

 

 

الأستاذ / محمد المصطفى ولد محمد سالم
كاتب ضبط رئيسي بالمحكمة العليا
باحث في قضايا الفقه الإسلامي
[email protected]

7. أغسطس 2016 - 13:03

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا