بغض النظر عن مواقف الرئيس الأسبق العقيد أعلي ولد محمد فال من النظام القائم في موريتانيا، أو أهدافه من كل خرجاته وتصريحاته التي منها قوله للمرة الثانية إنه بموريتانيا خلايا لتدريب " بوكو حرام "، ولأنني لا أملك أية معلومات عن هذا الموضوع تمكنني من نفيه أو إثباته، إلا أنني أخشى أن نتعامل
مع هذه التصريحات بالشكل الذي تعامل به القوم مع ابنهم الذي كان يقول لهم في كل مرة إن العدو على مقربة منهم، فيذهبون للتأكد من الأمر فلا يجدون ذلك العدو، فحكموا على ابنهم بالكذب وأصبحوا لا يعيرون اهتماما لتحذيراته، إلى أن قال لهم مرة إن العدو خلف الجبل في طريقه إليهم فلم يعيروه اهتماما كالعادة، لكن الرجل هذه المرة كان صادقا فباغتهم العدو وقضى عليهم..
فحتى لو كنا متأكدين من عدم صحة هذه المعلومات، إلا أنها هي وغيرها من المعلومات والتقارير الإعلامية والدولية، مهما كان تصنيفنا لها في إطار دعاية أو تشويش أو غيره، فإنها ينبغي أن تكون منبها وموقظا وتذكيرا لنا بواجب الحذر واليقظة الدائمين اللذين لا يرتبطان بتطورات أمنية في العالم أو في الإقليم أو بحدث هنا أو هناك، وإنما التعزيز الدائم للخطط الاستباقية، والاشتباه في كل ما يثير الشبهة وعلى جميع الأصعدة.
وقد اطلعت على " تطمينات " لأحد المتخصصين في شؤون الجماعات المتشددة، تعرض فيها إلى استحالة وجود الفكر " البوكو حرامي " في بلادنا لغياب حاضنة اجتماعية لهذه الجماعة من جهة، ولفكها للارتباط مع الجماعات المشابهة في منطقة الساحل من جهة أخرى، وهذان العاملان قد يشكلان حاجزا أو مانعا لوجود " بوكو حرام " في بلادنا لكنه حاجز ظرفي، مما بجعل الحذر واليقظة دائمين، فكما قالت أنثى الغراب لابنها يا بني إذا رأيت شخصا ينحني إلى الأرض فَطِرْ لأنه سيأخذ حجرا يرميك به، لكن الغراب كان أكثر حيطة وحذرا من أمه فقال لها: ومن قال لك يا أمي بأنه لم يكن يحمل الحجر في يده قبل أن ينحني إلى الأرض..؟!
وهنا ما أدرانا أن تعمل جماعة " بوكو حرام " على تجنيد أشخاص من أبناء قبائلنا ومجموعاتنا للتغلب على عائق غياب حاضنة اجتماعية لها، لنشر فكرها وتجنيد المزيد من أبنائنا موفرة بذلك حاضنة اجتماعية لها، وتشكيل قواعد لنفس الجماعة تتوحد معها في الفكر والأهداف؟
قل لمن يدعي علما أو فلسفة في هذه الجماعات والتحاماتها واندماجاتها وانضماماتها وانشقاقاتها وانفصال بعضها عن بعض، حفظت شيئا وغابت عنك أشياء.. فما أوتينا من علمها إلا قليلا بحكم خصوصياتها واستراتيجياتها المعتمة والمبهمة والغامضة، حيث ينشق فصيل منها اليوم عن فصيل ويندمج مع فصيل آخر، وتنشأ جماعة على أنقاض أخرى وعشرات الأسماء والألقاب الحركية المتغيرة والمتجددة، وإذا كانت هناك أحيانا أسباب فكرية لهذه الانشقاقات فإن هناك أيضا أسباب أخرى غير فكرية بالضرورة تتمثل في التنافس على المكاسب والمغانم، والتوزيع على المهمات والأهداف وما يطبع ذلك كله من تكتيكات وتمويه وتبادل للأدوار.. لكن الهدف والأسلوب واحد وهو العنف والتخريب والاستثمار في الفوضى والاستعانة بها في التوسع والتغلغل في مناطق جديدة.. وما دام هدف هذه الجماعات واحد، فقد لا تهمنا كثيرا انشقاقاتها وخلافاتها الفكرية وتحييد بعض فصائلها لدولة أو منطقة في إطار ترتيبها لأولوياتها انتظارا لمواتاة الظروف للتغلغل في مناطق أخرى!
فقد كنا، في فترة سابقة من تاريخنا نغض الطرف، أو غير منتبهين لأنوية و "بذور " هذه الجماعات وأفكارها في بعض مؤسساتنا التعليمة إجلالا للعلم وطلابه، إلى أشهر فينا من كنا نحسبهم طلاب علم طبيعيون أسلحتهم وقنابلهم وأحزمتهم الناسفة، واليوم نرى المئات من طلاب العلوم الشرعية المنحدرين من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء يدرسون في محاظرنا، ونجدهم في المساجد يتسولون الدعم باسم طلاب العلم، ولشدة احترام مجتمعنا لطلاب العلم والثواب الكبير الذي ينتظر من يساعدهم، فإننا لا نضع عادة علامات الاستفهام الوارد وضعها حول هذا التدفق الكبير لأعداد طلاب المحاظر من هذه البلدان.. هؤلاء الطلاب قد يكونون طلابا عاديون مسالمون مائة بالمائة، لكن قد يكون أيضا من بينهم واحد أو اثنان أو ثلاثة لهم مهمات ووظائف أخرى غير الدراسة، والحذر واليقظة والرصد والمتابعة إزاء هذا الاحتمال يجب أن يكون اليوم وليس غدا..
علما بأن التهديد لا يأتي فقط من هؤلاء الطلاب الأجانب، بل إنه من أبنائنا الذين قد يحملون أو يُحَمّلون بهذا الفكر أيضا، وقد شاهدنا قبل أسابيع كتابات على حائط المطار القديم تمجد دولة الخلافة، وقد يكون من كتبها مجرد شخص أو أشخاص أرادوا تحقيق غايات أخرى ولا ينتمون للجماعات المتطرفة، لكن الاحتمال الآخر وارد، وقبل ذلك جاءنا تلاميذ إحدى المدارس الخصوصية وقالوا لنا إن سيدة منقبة جاءتهم في ساحة المدرسة وقالت لهم ادعوا الله ـ بفضل قلة ذنوبكم ـ النصر ل "داعش "، فهرعنا إلى المدرسة وأجمع كل التلاميذ على أن هذه السيدة فعلا كانت هناك تقول هذا الكلام لكنها اختفت! واستفسرنا طاقم المدرسة عن الموضوع فقالوا لنا أن لا علم لهم به، ولا يكفي كل هذا طبعا للجزم بأنه في بلادنا مراكز تدريب أو تشكيل خلايا لجماعة " بوكو حرام " أو "داعش " أو غيرهما من هذه الجماعات، ولكن لا دخان بلا نار كما يقال..
لا ندعي بأننا أكثر حرصا ووعيا وتأهبا من سلطاتنا حول ما يطبع عالم اليوم، وخصوصا المنطقة التي نوجد فيها من أخطار وتهديدات قد تضرب من حيث لا نتوقع ولا نعلم، لأننا نتذكر أن الرئيس في الأيام الأولى لوصوله للسلطة، قال إن الأولية لتوفير الأمن وحماية البلاد حتى ولو كلف ذلك تسخير كل إمكانيات موريتانيا لهذا الهدف، والإجراءات والمقاربات التي اتخذت لذلك على الصعيد الأمني والعسكري مشجعة ومطمئنة وناجعة حتى الآن، كما أن الإجراءات الأخرى الموازية التي تقوم بها وزارة الشؤون الإسلامية ملاحظة كالندوات والمؤتمرات، وحملات التوعية والتكوين في صفوف الأئمة والعلماء والخطباء والشباب، وعليها الاستمرار فيها وتكثيفها.
إلا أن ترامي أطراف بلدنا وتناثر السكان على مساحته بشكل فوضوي صعب الضبط والمراقبة، وانتشار المحاظر على أراضيه بدون ضوابط، يجب أن يحظى بما تفرضه الظروف والمستجدات الأمنية من تنظيم وسهر ومراقبة لكل ما يدور في هذه المحاظر، مهما تعالت الأصوات المنتقدة والمتهمة بأن الهدف من تلك المراقبة هو التضييق على القرآن والعلوم الشرعية كما حدث قبل أشهر إبان شروع السلطات في تنظيم عمل المعاهد الدينية، إذ تتطلب الظرفية والمخاطر والتهديدات إحصاء جديدا لكافة المحاظر الموجودة على التراب الوطني غير ذلك الإحصاء الذي تم قبل سنوات، وما إن أعلن عنه حتى ظهرت مئات المحاظر في كل ركن وكل زقاق طلبا للدعم الحكومي! مما يتطلب هيكلة جديدة لهذه المحاظر والمعاهد وتحديد من هو شيخ كل محظرة أو معهد، وما هو مستواه العلمي، وما هي المتون التي يدرسها وما هو منهجه وأسلوبه في التدريس، وما مستوى إدراكه لما يدور في عالم اليوم من مخاطر وتهديدات، وهل يدرك بأنه يمكن أن يُكون متشددين دون أن يدري أو ينتبه لذلك، ثم من هم طلاب هذه المحاظر وما هي جنسياتهم؟
فالأمر، لشدة المخاطر المتربة على التهاون به، يتطلب علاوة على الضبط الدقيق لعمل المحاظر وجود مراقبين مشرفين عليها يرصدون ما يجري بداخلها مما قد يحدث من تجاوزات وثغراتت واختراقات، قد لا يكون الكثير من شيوخ المحاظر على اطلاع عليه بحكم نواياهم الصادقة وعدم إلمام بعضهم بما أصبحت الجماعات المتشددة تلجأ إليه اليوم من خطط واستراتيجيات وطرق تغلغل في المجتمعات.. حتى أنني فكرت بخطة وقائية تقوم على فتحنا لمحاظر في بلدان إفريقيا جنوب الصحراء لتدريس أبناء هذه البلدان في بلدانهم، وحظر قدومهم إلى بلادنا بغرض الدراسة..علما بأن هذا الإجراء وغيره من إجراءات تشديد الرقابة على المحاظر والمعاهد وتقييم مدرسيها ومناهجها، سيحظى بجانب كبير من الدعاية ضده على أنه حرب على الإسلام وعلى تاريخ البلد وإشعاعه العلمي والثقافي.. لكن لا يجب أن نلقي بالا لتلك الدعاية لأن الأمر أكبر من الجميع بل ومن العلم نفسه، فعندما ينتشر الفكر المتطرف، وتتشكل أنوية حامليه، ويتزعزع الأمن والاستقرار، فعلى المحاظر والعلم والمجتمع والدولة والإشعاع العلمي والثقافي السلام