أصبح الحوار موضوعا لافتا للأنظار في المسار الديمقراطي بموريتانيا، حيث إنه منذ بداية المأمورية الرئاسية الأولى للرئيس الحالي طرح الحوار بصفته المنفذ الوحيد إلى نيل الشرعية الدستورية، ومنذ ذلك الوقت اكتسى أهمية متزايدة للغاية. وعلى الرغم من تبني الحوار نظريا سواء من قبل الأغلبية
أو المعارضة، فإن تجسيده عمليا ظل معاقا، بل مطبوعا باللا حوار إن جاز التعبير. وبصرف النظر عن حداثة التجربة الديمقراطية لموريتانيا فإن أحدا لم يكلف نفسه عناء النظر في حدود الحوار.
تكمن المعضلة الكبرى أمام الحوار في أنه لم يتم تحديد الهدف بدقة؛ لا يعني ذلك أنه لا توجد أهداف بالضرورة للحوار المأمول، وإنما المسألة تتعلق بالهدف الأخير الذي ينتظر من الحوار فتح الطريق إليه، وبكيفية صريحة هل الهدف من وراء الحوار هو إزاحة النظام الحاكم أم أن الهدف هو إشراك المعارضة؟ هل المهم هو إجراء الانتخابات أم أن الهدف أكثر من ذلك يتعلق برسم الطريق الآمنة للتناوب السلمي على السلطة؟ في تقدير الفهم السليم أنه عندما لا يحدد الهدف بشكل صارم يصبح الأمر أشبه بالمرء الذي يسير من غير وجهة، ويعتبر السير في حد ذاته إنجازا. وبالمثل فإن إجراء انتخابات جديدة لا يعد بتاتا نجاحا للحوار. والواقع أن هناك اتفاق بين السلطة القائمة وأحزاب المساندة وبين المعارضة وأحزاب المعاهدة على أنه لا ينبغي أن تستبق نتائج الحوار بدليل أن النتائج هي الخلاصة النهائية التي سيتم الإجماع عليها. هذا صحيح، ولكن فقط من وجهة نظر جد سطحية وجد متسرعة، لأن تحديد الهدف الأخير الذي يتوجه إليه الحوار هو النقطة المؤلمة والحاسمة وبتعبير فلسفي هو النقطة الأرشميدية التي على أساسها يقوم تصور الحوار. بدون الهدف يكون الحوار بدون اتجاه، من حيث إن تحديد الهدف هو الأساس الذي ينبغي الانطلاق منه. إن الهدف هنا هو مجرد فكرة أولية أو استباق من شأنه أن يجعل أطراف الحوار في الاتجاه نفسه. ومن الخطأ أن يوازى الهدف مع النتائج لأنه يمكن للمرء أن يهدف إلى أمر دون أن يبلغه ولا يدل ذلك على أنه لم يتحصل على نتائج بعينها. الهدف إذن هو ما أسعى إليه والنتيجة هي ما أتحصل عليه.
ولا يكفي تحديد الهدف بالنسبة لأطراف الحوار فحسب، وإنما ينبغي أن يكون بديهيا. ومن أجل أن يكون كذلك، فمن الضروري أن يكون واضحا ومتميزا؛ هذان الشرطان الأخيران يقضيان بوضع مبادئ عامة مهمتها هي الإبانة عن الحدود القصوى للهدف الأخير من الحوار وضمان استمراريته. المبادئ بهذا المعنى هي الشروط أو الضوابط التي تجعل من وضوح وتميز الهدف أمرا ممكنا. لكي يكون الهدف واضحا ومتميزا يستلزم أولا الاعتراف المتبادل بين أطراف الحوار. والمدلول الذي يشير إليه هذا المبدأ هو أن يقر كل طرف على أن الهدف الأخير، التناوب السلمي على السلطة مثلا، هو من مصلحة الجميع. ويقتضي ذلك أن ينال كل طرف حقه في الاعتبار، فلست أنا طرف قوي وأنت طرف ضعيف، لست أنا على صواب وأنت على خطأ، لست أنا من أصحاب اليمين وأنت من أصحاب الشمال. يدفع هذا المبدأ مطالبة المعارضة السلطة القائمة بضمانات هي من باب التكليف بما لا يطاق، كما أنه يدفع تجاوب السلطة القائمة مع المعارضة في أمور هي من باب ادعاء ما لا يصح.
ينبع من هذا المبدأ مبدأ آخر يوازيه تماما وهو الثقة، لأنه من غير المنطقي أن أحاورك وأنا أرتاب في مصداقيتك وأشكك في جديتك، على خلاف ذلك يجب أن تكون ثقة الأطراف رأسا هي الحافز على الحوار، وهنا تجدر الإشارة إلى التخلي عن المسبقات والأحكام الجاهزة، ليست مواقفك الماضية وآراؤك السابقة هي دليل إدانتك بقدر ما أن استعدادك الحالي واقتناعك بالحوار معي هو رهان ثقتي فيك.
إلا أن تحديد الهدف الأخير للحوار المأمول على أهميته يبقى متعذارا ما لم يصاحبه وضع برنامج عام يحدد المراحل الأساسية، والذي من خلاله سيتم تعيين الوسائل اللازمة للإحراز على الهدف المشار إليه. وهنا يرى الفهم السليم أنه من الضروري الوقوف عند التصور لبيان حدوده. من المؤكد أن أطراف، ‘‘أغلبية’’ و‘‘معارضة’’، متعارضة في الرؤية والمنهج، في التصور والآلية، هو سبب وجيه للاختلاف، ولكن في الوقت نفسه هو السبب الأكثر وجاهة للاتفاق مع أن مسألة الاتفاق تطرح حتى في صفوف الطرف الواحد. ينبغي أن يكون الطرفان وبشكل بدئي على اقتناع من ضرورة الإجماع. وهذا الأخير ينبع من صلب الاختلاف ذاته. ليس الإجماع ممكنا إلا لأن هناك اختلاف. وطغيان هذا الاختلاف لا يجب أن يكون من جهة أن المساندة مساندة والمعارضة معارضة، وبالتالي لا فائدة من وراء حوار بعضهم البعض، وإنما بالأحرى يجب أن يكون طغيان الحوار ناشئ عن تصور مضمون الحوار.
ينتج عن هذا الرأي أو بالأحرى هذا الموقف اقتناع جد أساسي وهو أنه يتوجب على أطراف الحوار التخلي مؤقتا بمقتضى إرادتهم عن آفاقهم. بمعنى أنه من أجل أن يحصل الإجماع يستلزم أن يرتفع كل طرف في الحوار عن الأفق الذي يفكر من داخله؛ حيث إن بقاء أحد أطراف الحوار في أفقه هو عائق مبدئي دون الحوار. والمقصود هنا التوقف عن التحرك على أرضية المواقف والاقتناعات الخاصة بكل طرف أيديولوجية كانت أم سياسية مهما كانت وجاهتها. ويمكن لذلك الارتفاع أن يتوقف بمجرد ما يتم الإجماع. ولا يقصد من هذا أنه بإمكان أحد أطراف الحوار إنكار نتائج الحوار عندما يتبين له لاحقا أنها صبت في صالح الخصم. فنتائج الحوار ملزمة لجميع أطراف الحوار كيفما كانت تلك النتائج، بل إن تحيينها والعمل على تنفيذها هو من شأن جميع الأطراف.