(المقال الأول): الطريق إلي الإصلاح
العمل التربوي في بلادنا يواجه تحديات كبيرة تتطلب من وزارة التهذيب الوطني عملا جادا ومتواصلا تلقي فيه الجهود، وتتعاضد الإرادات، وتتوافر له الوسائل ويؤسس لمنظومة تعليمية ذات فاعلية وناجعة.ولكن كيف يتحقق ذلك؟
إن ذاكرة المواطن الموريتاني ضعيفة لدرجة أن التعهدات الكبيرة التي قطعها القادة السياسيون والعسكريون علي أنفسهم بإصلاح التعليم ماتلبث أن تختفي وراء الأحداث ؛فمن المنتديات العامة لإصلاح التعليم..... إلي سنة التعليم، لم يتحقق الشيء الكبير؛ فقد ظلت قاطرة الإصلاح تجرها دائما المصالح الضيقة والنزوات الفردية ،ولم يتمكن أي وزير سابق من فعل شيء أكثر من تسوية بعض الحسابات في إطار علاقاته المهنية السابقة، وتلبية بعض الطموحات لدي الأفراد بالحصول علي مناصب في الوزارة بالإضافة إلي آراء شخصية يفرضها علي القطاع "كفكرة مدارس "الامتياز" والتي لم تحقق سوي أنها عزلت الأذكياء والمتفوقين من التلاميذ وحبستهم في مجال مغلق يمنعهم من التفاعل الإيجابي مع المحيط الطلابي العام ،وأيضا تأكيد أحد الوزراء السابقين للرئيس علي أهمية المادة العلمية ،وعدم جدوائية تدريس المواد الأدبية،وهو ذات الاتجاه الذي أخذ يترسخ لدي الوزراء الذين تعاقبوا علي الوزارة وحملوا هما وحيدا :"هو محاربة التعليم الأدبي والتركيز علي التعليم العلمي "!
إن الموضوعية تقتضي منا الاعتراف بأهمية تدريس المواد العلمية ومراجعة الإختلالات العميقة في تدريس تلك المواد والتي من أهمها:
- لغة التدريس :وقد أصبحت منذ العام 1999م اللغة الفرنسية هي لغة تدريس المواد العلمية ، وقد قيل وقتها إن هذه الخطوة لاتهدف إلي طمس هوية المجتمع وتهميش ثقافته العربية بل علي العكس – والعبارة لوزير أول سابق- من شأن الإصلاح الجديد تعزيز دور المواد الأدبية المُدرسة باللغة العربية والمساهمة في الحفاظ علي الهوية الوطنية ،لكن تطبيق ذلك ظل ضعيفا، ولم يتم تدريس المادة العلمية باللغة الفرنسية في أغلب الأحيان: إما نتيجة العجز اللغوي للأستاذ العلمي وتكوينه المُعرب ،وإما بسبب التدني المستمر لمستويات التلاميذ في اللغة الفرنسية .
- الوسائل والتجهيزات والأدوات والحوافز،وكلها أمور أساسية للنهوض بتدريس المادة العلمية في بلادنا؛ فالمؤسسات الحالية تفتقر إلي المختبرات والتجهيزات العلمية والأساتذة لايجدون دعما أو حافزا حقيقيا مما يدفعهم إلي اللجوء إلي المدارس الحرة .
- الكتب والمراجع العلمية غير متوفرة في المؤسسات التعليمية وما يوجد منها لا يستجيب لمعايير الكتاب المدرسي من حيث الجودة مما يدفع التلاميذ والأساتذة إلي استخدام كتب الدول الأخرى .
- الاستيعاب والتوظيف: خريج المادة العلمية يكلف الدولة أعباء كبيرة لكن حملة الشهادات العلمية يتظاهرون منذ سنوات طلبا للتوظيف ،وقد أصبح البعض منهم يشتغل في المهن التي لاتتطلب تكوينا علميا ،وهوما ينم عن عدم تخطيط مسبق .
- أخيرا وليس آخرا البرامج التعليمية والأقسام العلمية :من الملاحظ أنه لا توجد إستراتيجية تعليمية تمكن من الارتقاء بالتعليم انطلاقا من أهداف واضحة ،وإنما يجري العمل من خلال تصورات يضعها الوزراء الذين هم في الغالب من غير المختصين في مجالات التربية والتعليم وينفذها أشخاص غير مكونين في مجالات عملهم ،ولذلك نجد أن الارتجالية في أخذ القرارات التربوية هي السمة البارزة في كل ماتقوم به الوزارات المعنية بالتعليم في بلادنا ،ومن الأمثلة علي ذلك أن تمويلات ترصد منذ سنة التعليم الماضية لمراجعة البرامج -وهي ملحة وضرورية بالتأكيد – لكن شيئا لم يترتب عن تلك الأنشطة لصالح البرامج وبقيت علي حالها .
كل تلك النقاط تجعل المجال العلمي في بلادنا بحاجة ماسة إلي جهود كبيرة ولكن ذلك لاينبغي يجعلنا نغمض الأعين عن حقائق هامة نسطرها في مايلي :
-المنظومات التربوية في العالم كله وحدة متماسكة لايمكن عزل مكون من مكوناتها عن الآخر،لأنها تشكل معا "إطارا تعليميا متماسكا ومتكاملا" .
- البرامج التعليمية هي الأكثر التصاقا بعضها بعض؛ فما يدرس في أي مادة أدبية أو علمية يحقق جزءا من الهدف العام للبرنامج التعليمي لبلد من البلدان. -لايمكن إجراء أي تعديل في مادة تعليمية دون مراعاة انعكاسات ذلك علي تدريس المواد الأخرى وما لايعلمه الكثير من المسؤولين (ذكورا وإناثا) في الوزارة هو:أن من الخطأ عزل كتابة برنامج تعليمي عن بقية المواد لأن من العناصر الأساسية في كتابة البرامج ما يسمي بالتفاعل "البيني" ويكون بين جميع المواد المدرسة في مستوي من المستويات ،وهو عنصر أساسي لكي يأخذ البرنامج التعليمي طابعه التكاملي، وليس الانفصالي- كما يبدوا أن البعض أشار بإمكانيته للوزير- وهو أمر خطير ينبغي تداركه في الوقت المناسب.
هذا فقط إذا كانت مراجعة البرامج الحالية أكثر جدية من ساباقتها .