"ش كون" "امني ولايه" "معين المن" "مُسكري بتعيين" أسئلة و عبارات و إن خفت حدة تداولها في الصالونات و جف منها الريق على الألسن إلا أنها لم تغادر بعدُ الأذهانَ و ما زالت تطفوا على السطح بعض دلالاتها في أعقاب نشر كل بيان لمجلس الوزراء أو صدور مرسوم عن رئاسة الجمهورية
أو تعديل وزاري و كأن الواقع في غياب تام عن سياقات الدولة الحديثة أو في تعارض مع مبادئ الجمهورية. حقيقة مرة لكنها حقيقة ماثلة بكل تجلياتها، تلقي بوزنها المخل على واقع الحياة السياسية و العملية و تعيق دولة القانون في تشكلها و استمراريتها.
إن هذه الحالة المنتمية لزمن آخر هي من رواسب عقلية "السيبة" و حكم المداهنة الذي ظل فيها لا يفتح طريقا و لا يغلق آخر، هما اللذان لا يتركان نفسا لرهانات التحول حتى تجد مسالك نافذة إلى التجسيد. فعلى الرغم من مرور أزيد من نصف قرن من الاستقلال ـ الذي بدأ "مريبا" في طوياته الأولى عند المستعمر وقد جاء سائقا إلى الأرض "السائبة" "كبولاني" يحمل مشروع تهدئتها و إنهاء حالة الفوضى في فضائها الساخن الممتد عبر الصحراء الكبرى ما بين الجزائر و المغرب و بلاد السودان "مالي" اليوم، في الغرب الإفريقي ثم الاقدام في المرحلة الموالية متجسدة في إنشاء و إعلان دولة تسهل التحرك الآمن و تحقق ربط أرجاء المستعمرات ببعضها.
و لما ان "المقاومة" لم تأخذ يوما شكلا نهائيا موحدا و منظما يجري الاتفاق عليه كما حصل في الجزائر و عديد بلدان العالم أيام كفاحها التحرري فإن جذوتها انطفأت سريعا و كانت الغلبة لصف الذين رأوا في مهادنة الاستعمار خيرا عميما و تباشير أمن غائب و انزياح حالة الفوضى و الظلم و التخلف بكل توابعه المشؤومة من فقر و مرض و جهل المنتشرة كداء الجرب المعدي في كل أرجاء البلاد المترامية الأطراف.
و بقدرما كانت "المقاومة" حقا شروعا و صفة نبل أمام الغزو و المسخ و الإذلال، فإن السعي إلى إنهاء حالة الفوضى و حيف قوى البطش و ممارستها الظلم على المستضعفين و رفض استمرار غياب الدولة المركزية و مفهومها أيا كان شكلها من لدن رافضين و مناوئين هو كذلك أمر له ما برره و منه أن جمع من حولهم كل المستذلين و هم كثر ينتمون لكل فئات المجتمع و شرائحه المعذبة و الواقعة تحت طائلة ثلاثي المنع من حمل السلاح و تعلم العلم و جمع الأموال.
و تأسست الدولة على الرغم من وجود هذه النوايا المتعارضة و القوى المتصارعة و "هوى الجرف على ظله" و بدأت مسيرة الالتحام بالحداثة. لكن رواسب الماضي و نظم و عقلية أهل البلد الاجتماعية ظلت حية بكامل قواها و دفين إيذائها ـ رغم ثوب الحداثة الذي أُلبسته و عين الرقيب الفرنسي المسلطة طيلة حضوره فترة تكوين و توجيه و إعداد الأطر الجدد ـ تعيق استقامة السير المستجد و تقسم الكيان الجديد ما بين أطرها التي لم تَغِب و ظلت تسيرها وفق مضامينها القبلية و التراتبية. و بالطبع فإن الاحزاب السياسية رغم الأسماء المنحوتة لها من مفاهيم عصرية كالنهضة و التقدمي و الشعبي لم تكن سوى تجمعات جهوية و تكتلات قبلية تحدث بداخلها المشاورات و تخرج منها التوافقات و تتبلور ة تتحدد المواقف. و مع المزج بين العصرنة و وطأة التقيد بنظم الماضي استبب الشأن السياسي و الريادة لعدد قليل من القبائل بأسماء منها ما ذاع صيته و أطراف معدودة من الإثنيات و الشرائح أفرزت هي كذلك أسماء للتوازنات الأخرى برسم ضمان استمرار الأحوال. و اندلعت حرب الصحراء بموازاة جفاف ماحق ليقوضا معا القليل الذي حصل من بناء الدولة، و لكنهما لم يقضيا على المسلكيات القائمة بل و وسعت الانقلابات الدائرة القبلية قليلا لتدخل على الخط قبائل لم تكن حاضرة إلا في الجيش و كانت قبل الحرب شبه مهمشة. تتالت الانقلابات بعد ذلك حتى عصفت رياح الديمقراطية على أرجاء المعمورة في أعقاب تفكك معسكر الشيوعية. و على إثر ذلك دخلت موريتانيا كغيرها من البلدان النامية عصر التعددية ـ و لكن كما كان الأمر بالنسبة لها أيام الفرنسيين و حتى أن حظرها حكم الحزب الواحد "حزب الشعب الموريتاني" ـ لتجد موريتانيا اليوم نفسها في حراك ديمقراطي فيه ما يناهز المائة حزب أغلبها و أبرزها وزنا بنكهة الماضي و مرارة "السيبة" و بعد مفهوم الدولة في الغالب عن عمق خطابها و مسطرة أهدافها، و ثأرية بعضها بمطالبات حقوقية.
و هي كلها الأحزاب التي انتظمت في مجموعات ثلاثة الأغلبية الرئاسية و المعارضة المحاورة و المعارضة الراديكالية.
و لما أن مسألة الحوار قد طرحت منذ أمد فإن صعوبات جمة ما زالت تحول بين التوافق حول حيثيات هذا الحوار و اشتراطات قيامه و المضي إليه من خلال الاقدام على تجاوز الخلافات البيزنطية الشكلية بما يناسب من التنازلات لفائدة المسار الديمقراطي و تجنيب البلد أزمات هو في غنى عنها. و بقدر ما تكمن معضلات التوافق بين أحزاب الأغلبية و أحزاب المنتدى في الشكل دون المضمون فإن عوامل شديدة الوطأة من وحي رواسب الماضي تؤجج الوضع و تقيد التعاطي السياسي السليم هي كذلك و تعمق تنك الخلافات التي لا ترقى إلى خلق صدع بالغ في جسم الكيان. و فيما تلبس هذه الأحزاب التعاطي السياسي رداء من "الماضوية" فإنه لا يكاد يخفى و إن غطته ضعفا مبررات مستمدة في شكلها من وحي الحداثة و المدنية و لكنها في صميم مضمونها هي أبعد ما تكون عن ذلك متجلية في تركيببتها من الأسماء و جهاتها في الوطن و غيابها عن الميدان العام.
فإلى متى تظل رواسب الماضي البادية الصارخة و الخفية الصامتة تعيق السياسة و لا ترتفع إلى نبل الحوار و مقاصده العالية؟
ثم متى لا تترك للأجيال الصاعدة فرصة التواصل بلغة العصر و العمل بمقتضى متطلباته؟
و متى أخيرا لا تنجلي عن الحوار صبغة القلق و يجنب الطريق الزلق؟