التفكير في تعدد مذاهبه وطرقه من الأشياء التي درج عليها في المعطى البشري بصورة عامة، وبتشكله سواء أكان صائبا أم خاطئا تشكلت الحضارة المعاصرة على علاتها وتعقد وتشابك مفرداتها في المراد منه. فالأسس الحضارية لأي أمة ما هي إلا نتاج تفكير وقراءة متأنية للوقائع والأحداث بتصنيفها
المحلي أو العالمي في سياق متعولم يحتم حركية دائمة وانسجاما متعدد القراءات للذي يجرى حولنا فهما واستنباطا تأملا وتفكيرا.
فهل من هذا المعطيات المنهجية، يمكن أن نؤسس لفكر سياسي متعطل على مقاس من تعطل الأحكام الاجتهادية في كلياتها العامة، بما يتناسب مع فقه المرحلة وتعدد أقاليم دار الإسلام ومجالاتها، مما يحتم واقعية منسجمة ومتفتحة بشئ من التساهل حتى تنعم أفئدة وتستقر نفوس.
وإن ظل هذا التوجه المرن بما يضع من أحكام شرعية ـــ يغيب عنها البحث الاجتهادي في تناول كبريات الإشكاليات الفقهية حول الإمام وأدواره السلطوية بمفهومها الواسع ـــ، لم يخلق انسجاما موحدا ومشتركا يقلل أو يعطى مبدئيا نوعا من الوعي بالأمة الجامعة المنسجمة ثقافيا والممتلكة ردودا شافية غير لحظية حول مصائرها وعلاقاتها مع الآخر مهما كان سواء المخالف ثقافيا أو بصورة مغايرة لنمط التفكير والملبس والمأكل والمشرب...الخ.
تلك مشكلة حقا تواجه حاضرنا بكثير من الأسئلة المكثفة، والحرجة التي تجعلها من العالق أو المنسي في علاقة الفكر والثقافة بالمنتج عموما والمراد تصويره على المستوى الشعبي الجارف، المتلقف بطبعه لكل حراك من هذا القبيل على أساس من "التغير" و"الانسجام الاجتماعي"و "محاربة المارقين والخارجين " عن المقدس أو الممنوع.
والحق أن هذا الصراع النخبوي في تحديد المسارات الفكرية إجابة على الإشكالات المصيرية هو من القضايا الشائكة والمعقدة إن تعلق بدار الإسلام عموما أو بجوارها خصوصا، و إن ظلت هذه الآراء مسكونة بهواجس نحسب إيرادها في هذا المقام من الضروري الحتمي نثرا للمفاهيم العامة المؤسس عليها الفعل السياسي في البلاد الموريتانية ومقتضيات الواقع التي أنتجت الأسس المعيارية للخطاب السياسي المستحدث أو الماضوي، وإن كان الفرق جليا بين المفاهيم الخطابية التي أنتجت في ظل حركة سياسية أو نظام أو تيار مهما كان، والفكر الذي في صياغته الجمعوية انبنى عليه التوجه والمسار السلطوي عموما علاقة وتفاعلا وإنتاجا للمفهوم وتحولا بطيئا يعكس التغير والتبدل في إطار العملية السياسية وانسجامها مع المعطيات المجتمعية عموما.
ولعلنا أردنا هنا أن لا نتتبع عن قصد ووعي المسارات التاريخية الفكرية لهذا المنتوج المعرفي السلطوي، ولا معيارية تلك الخطابات وصدق توجهاتها و إثرائها للساحة العلمية أو السياسية بقدر ما أردنا أن تكون الأفكار عموما مرصودة في مجموعة من النقاط مبدئية إسهاما في النقاش العام حول كبريات الأحداث التي تظهر من حين لآخر مقلقة بحسب المعايير السياسية أو الاجتماعية، لذا فإن الإجابة هنا بمعناها الوظيفي ستكون استحداثا لإشكاليات النشأة ومقتضيات الواقع.
1ـ
ـالواقع المحلي ونقصد به التفاعلات المحلية سواء تعلق الأمر بالوحدة الشاملة لفضاء اشتمل على خصائص عامة موحدة استثمرت في الوقائع والمحطات البارزة من تاريخه خصوصا في أيام المحن والقلاقل، وإن كان استثمار عكسي في غالبه يعكس ردات فعل غير محسوبة العواقب ولا مأمونة الجوانب لمستغليها، أو كان على مستوي تجاذبات الأطراف، وما تطرح من إشكاليات تتعلق بالأقليات وحقوقها ومشاركتها في العملية السياسية بما يكفل الخصوصية والفاعلية المجتمعية في آن.
وإن كان هذا الصراع ظل نخبويا في تعاطيه نحو المسارات و الاتجاهات المحكوم بها في خصوصية موقعه، وما يتيح من تعددية استغلت على مستويات عدة في إطار المجتمع الفرد والأنا الغالب المسيطر على كل الأشياء بفضل المعطي الاجتماعي الذي يرزح تحت وطئته الجميع إرجاعا لسنة القبيلة والتكتلات المفضية إلى نوع من الممارسة الاستغلالية للفرد ونفوذه في المجتمع الصحراوي بمفهومه الواسع.
2ـ
ـ الإجابة على المستحدثات التي طرأت خصوصا مع تشكل الدولة المعاصرة، وما طرحت من إشكالات إن تعلق بالمفهوم وإخضاعه للمحلية و التبيئة بما يتناسب وخصوصيات المجتمع، أو كان على مستوى التفاعل مع الوليد الجديد بخلق أنساق مرجعية تكون أساسا للمواطنة والانسجام المجتمعي.
وإن كان هذا المجال من الإشكاليات غير المحسومة ولا المتفق عليه بين جمهور النخبة أحرى في عمومه، وهو ما خلق أثرا عميقا في الفهم والحدود والواجب اتجاه الرعية أو في قواعد العملية المدار بها العمل السياسي، وهنا نقصد الشرعية المجتمعية للحكام والاتفاق ضمنيا على حدود التداول بمعناه الوظيفي.
وما الأزمات التي تحدث بين الفينة والأخرى إلا انعكاس بادي لهذا التمظهر، فلا المواطن في شقه الشعبي أحس بواجبات يقدمها على أساس من مواطنته وزهده في الأشياء المادية للدولة ككيان يجد فيها الذات والضمير، ولا الأخيرة أحست بدورها غير النفعي اتجاه هذا المواطن في خلق ثقافة حوارية حول الثوابت والمرتكزات والابتعاد تدريجيا عن القلق أو التردد اتجاه كبريات الأسئلة حول الهوية والمسار المتفق عليه.
وهو ما أظهر حسب نظرنا خللا بنيويا في تأسيس دولة معاصرة تبني على معادلة الحق والواجب والعدل والإنصاف وحسم المقتضيات الواقعية للأسئلة التي تتطلب إجابات.
3
ـ الآخر وتقبله ومحاولة فهمه في سياق الإنسانية والمشترك العام لأبناء المجال وتلك إشكالية تماهى فيها أهل الرأي ونوقشت على أكثر من صعيد وإن ظلت حبيسة التجاذبات المحلية والآراء الجزئية الآنية المنطلقة من مصالح لحظية.
ولم تقدم تلك المراجعات في نظرنا رؤية تأسيسية، يأوي إليها حين المطبات والمزالق أو الفهم في سياق الجماعة الموحدة، وهو ما قلل من الآراء التنويرية في مكافحة الحركات والأطماع التذمرية التي تظهر من حين لآخر رافضة أو غير مقتنعة تمام الاقتناع بالواقع وإفرازاته، وهو أمر تمثل بشكل مباشر في الاحتجاجات والتكتلات حينا بشكل قانوني تكفله الدساتير والمؤسسات وأحايين أخر كثيرة تكون ردات الفعل غير متحكم في مسارها ولا في الوعي الذي ستفرزه عبر الزمن الطويل.
4
ولعل النخب في عمومها ظلت حبيسة الراهنية الزمنية فلم تفلح ـ و الحكم ليس بمعناه الجزمي ـ في إعطاء مقاربات نموذجية للواقع السياسي في تجازوه للإشكاليات المقلقة والتي تظهر بصور قد لا تكون وردية, فهي في النهاية جزء من الحراك المجتمعي، وقد يكون تموقعها مناسبا جدا لمقتضيات المرحلة وإفرازا له وفق مقتضيات الواقع والرجوع إلى الأطر القبلية تماهيا وانسجاما مع المجتمع وقواعده في الجانب الآخر.
وهو واقع أنتج نوعا من نظام التقية في المعاملة والإحساس بواقعين متناقضين في المبادئ والأهداف، مما يجعل الهوة عميقة في خلق تفاهمات حول الفضائين بما يتيحان من مصالح نفعية قد يكون الفضاء القبلي أقوم وأيسر الطرق إلى الوصول إليها.
لذا فإن المشروع النخبوي في تأسيس الدولة ظل غائبا في خطوطه العريضة وإن كان إعطاء الحكم أو الرأي في المستجدات بمعناها النوازلي ظل متابعا للمشهد فاعلا في إنتاجية الأحكام والمواقف مما طرأ من الأمور في المأكل أو المشرب أو اقتسام المنافع مما تتعلق بالملكيات العامة أو المثير للدهشة ركوب السيارات أو الطائرة أو حقن الدماء وهي حركية إنتاجية غابت عن المشروع الأساسي في التفاعل معه واغتنام الفرص المتاحة في تأسيس الدولة المعاصرة.
5ـ
التوازنات القبلية ودورها في خلق انسجام اجتماعي، قد لا يكون بمنأى عن بعثها كهيئة لها القدرة على اتخاذ القرار في المصائر وكبريات الأحداث، وهو ما شكل ردة فعل ارتدادية في صراع القوي ومركزيتها.
و عموما فأن هذا اللاعب شكل قوة ضخمة يمكن الاتكاء عليها حين المواسم كعنصر فاعل ومؤثر، و هو ما خلق نشازا بين التصورات الوضعية للمشروع الوليد وطموحات تتكيف مع الواقع وتعاد صياغتها على أساس الظرفية المعاشة، إضافة إلى الأدوار التي تلعبها كرقيب اجتماعي يعطي ويمنع ويهب وله السلطة التقديرية.
والحق أن هذا العوارض التي تظهر مقلقة في محيط عالمي متقلب ومتغير تعكس لا محالة ضرورة إيجاد مشروع مجتمعي تصنعه النخبة بمفهومها الواسع، من أجل تلافي أي رؤية، قد لا تكون منسجمة مع الواقع متبنية للخطابات التنويرية وواضعة الأصبع على الأسئلة المركزية التي تحتاج إلى إجابات بعيدة النظر والأفق، مما يجعل ضرورة مناقشتها والنظر إليها من الأمور الحتمية، إذا ما روعيت واستغلت اللحظات التكاتفية، التي تظهر من حين لآخر عندما تكون الحاجة ماسة لذلك الغرض.