أين قرار " الحضرية " بخصوص تعريب اللافتات؟ / محمدو ولد البخاري عابدين

قبل أسابيع من موعود انعقاد القمة العربية بنواكشوط، طالعنا قرارا صادرا عن رئيسة مجموعة نواكشوط الحضرية يقضي بإلزامية استخدام اللغة العربية في لافتات الشركات والمحلات التجارية واللوحات الإشهارية، وقد اعتبر البعض أن هذا القرار اتخذ خصيصا ضمن الاستعدادات لانعقاد القمة العربية،

 لكن القرار كان مؤرخا بتاريخ منتصف سنة 2015 أي قبل الإعلان عن استضافة بلادنا للقمة العربية بثمانية أشهر، مما يعني أنه أحد القرارات التي تمت مداولتها من طرف المجلس الحضري خلال تلك السنة ولا علاقة له بالقمة العربية.
يقول هذا القرار أو التعميم إنه يُلزَم أصحاب الشركات والمحلات التجارية واللوحات الإشهارية باستخدام اللغة العربية في هذه اللافتات واللوحات إجباريا، على أن تكون اللغة العربية في الأعلى وبخط عريض، وتكون اللغة الأجنبية في الأسفل وبخط أصغر حجما. وأن مخالفة هذا القرار تترتب عليها عقوبات تتراوح بين الغرامة ومنع النشاط الذي يمارسه صاحب المؤسسة أو الورشة أو المحل التجاري.
ومن خلال تجوالي في قلب العاصمة وفي أطرافها، لاحظت أن هذا المقرر لاقى تجاهلا عريضا من أصحاب المؤسسات والمحلات التجارية ولوحات الإشهار، هذا إذا كان هؤلاء سمعوا عن المقرر أصلا، فالقلة القليلة من اللافتات التي بدا أن أصحابها تجاوبوا مع المقرر فعلوا ذلك بتحايل، فمن كان منهم لا يستخدم اللغة العربية في لافتاته ويقتصر على استخدام اللغة الأجنبية، استخدم لافتة جديدة استخدم فيها اللغة العربية ولكن بتقابل مع اللغة الأجنبية، ومن استخدم منهم اللغة العربية في أعلى اللافتة، كما يقول المقرر، استخدمها بتحايل أيضا عن طريق تصغير حجم حروف اللغة العربية وتمطيط اللغة الأجنبية في الأسفل كي تشغل أكبر حجم من اللافتة، حتى أن ذلك ظهر جليا في اللافتات التوجيهية الزرقاء على شارع المطار الجديد وعند مدخله، مع العلم أن اللغة العربية أكثر قابلية للتمطيط والتمديد من أي لغة أخرى بحكم حروفها المترابطة!
نعود للعقوبات المترتبة على مخالفة مقرر تعريب اللافتات الذي يقول: إما الالتزام بالمقرر وإلا فالغرامة أو توقيف النشاط، وبما أن التجاوب مع المقرر كان ضئيلا إلى أبعد الحدود إلى درجة يمكنك القول معها إن القرار لم يصدر أصلا، وبما أننا لم نلاحظ ولم نسمع عن مؤسسة أو محل تجاري تم توقيف نشاطه، فمعنى ذلك أن الغرامات هي التي طبقت كعقوبة على مخالفة المقرر، وأن خزائن " الحضرية " تغص الآن بعائدات تلك الغرامات (عليكم بالظواهر والله يتولى السرائر ) فالاستجابة للمقرر لم نلاحظها على الأرض، والعقوبات لم نجد من تعرض لها، وخزائن " الحضرية " لسنا مطلعين عليها.. وإلا فعلى " الحضرية " إطلاع الرأي العام على أي من هذه الإجراءات العقابية اتبعتها، أو إطلاعه على أن المقرر تعذر تطبيقه وبالتالي لا توقيف لنشاط ولا غرامة دخلت حساب " الحضرية ".
المؤسسة الوحيدة، من بين آلاف المؤسسات والمحلات التجارية والورشات ولوحات الإشهار المنتشرة في عاصمتنا، التي استجابت لهذا المقرر هي إذاعة موريتانيا، فالمار من أمامها يلاحظ اللافتة المرفوعة على بنايتها والتي كُتب عليها اسم المؤسسة بخط عربي كبير وتحته ترجمة للاسم باللغة الأجنبية بخط صغير في زاوية اللافتة، حتى أن مكونات اللافتة الأخرى لم تتم ترجمتها كعبارة ( الجمهورية الإسلامية الموريتانية )، وعبارة ( شرف ـ إخاء ـ عدل ) التي تعلو لافتات المؤسسات العمومية عادة.. وهذا هو ما نقصده بتعريب اللافتات، فبالنسبة للمؤسسات العمومية إذا كان لابد من ترجمة لاسم المؤسسة فلتقتصر الترجمة على اسمها فقط ولا ضرورة لترجمة كل مكوناتها!
وإن كنت أعتقد أن كتابة لافتة إذاعة موريتانيا على هذا الشكل، وإن كانت تزامنت مع صدور مقرر " الحضرية " الخاص بتعريب اللافتات، إلا أنه يعود إلى شخصية مدير الإذاعة الجديد، وخلفيته الفكرية وفهمه السليم لمعنى الخصوصية الثقافية وعواقب الميوعة والاستلاب الثقافيين.. خاصة أنه لم يقتصر على احترام الخصوصية الثقافية في الشكل الخارجي لمؤسسته فقط، وإنما بدأ إجراءات احترام تلك الخصوصية في جوهر المؤسسة من خلال تعريب معاملاتها الإدارية. أو أنه أراد من خلال هذه اللافتة المميزة على مبنى مؤسسة من أعرق المؤسسات الإعلامية في البلاد مطلة على أكبر شارع في العاصمة " إذاعة " مقرر مجموعة نواكشوط الحضرية الذي تمت المصادقة عليه منتصف سنة 2015 ولم يخرج للعلن إلا في مايو 2016، وبعد أن خرج وعُمِمَ " ما أشغل فيه حد "!
قد تتذكر رئيسة " الحضرية " أنني كتبت إليها أياما بعد تنصيبها حول العديد من الأمور التي تحتاج إليها عاصمتنا مما يدخل ضمن اختصاصها، ومن ضمن ما تحدثت لها عنه ضرورة احترام خصوصية ولغة وثقافة البلد والمجتمع في كل مظاهر الحياة فيه، ومن ذلك احترام وتجسيد تلك الخصوصية في لغة اللافتات التجارية والإشهارية من خلال الخضور البارز للغة العربية على واجهاتها.. إلا أنها قد تتذكر أيضا أنني نصحتها بالحذر من اتخاذ قرار ستجد في النهاية أنها غير قادرة على تنفيذه ومتابعته. فنحن نعرف، وربما اكتشفت هي أيضا أنه في إدارتنا توجد " طبقات إدارية صماء " تمنع سريان القرارات، كتلك الطبقات الصماء الموجودة في التربة والتي تمنع جذور النبات من التمدد إلى الأعماق للحصول على الماء الجوفي، وتمنع الماء الجوفي من الصعود لمستوى جذور النبات، مما يؤدي إلى ذبول النبات وموته كما " تذبل وتموت " القرارات التي لا تمتلك القوة لاختراق تلك الطبقات..            
وتتذكر رئيسة " الحضرية " أيضا أنها في الأشهر الأولى من تنصيبها قررت منع وجود الحيوانات السائبة في شوارع المدينة، وكونت لذلك فرقا سهرت على مراقبة وجود هذه الحيوانات ومصادرة ما تجده منها في الشوارع، ونتيجة لهذا القرار أصبح المواطنون في الأحياء الشعبية على وشك التخلي عن ظاهرة تربية الحيوانات في المدينة، وبدأوا التخلص من حيواناتهم لأنها أصبحت تشكل عبئا عليهم، فإذا اطلقوها في الشوارع احتجزتها فرق " الحضرية "، وإذا احتجزوها في منازلهم أزعجتهم بأصواتها وروائح فضلاتها.. فقرر الكثيرون منهم بيعها والتخلص منها. لكن ما هي إلا أسابيع قليلة حتى توقفت تلك العملية واختفت فرق المراقبة من الشوارع، فعاد من باعوا حيواناتهم إلى شراء حيوانات جديدة. والكثير من القرارات الصادرة عن إدارتنا تأخذ مسار " طربت الراعي " هذا، وبذلك يتربى المواطنون على احتقار قرارات الإدارة بتكرار عدم متابعتها لقراراتها!
وخلال بداية هذه السنة قررت " الحضرية " أيضا تنظيم حملة شهرية لمكافحة البعوض تنطلق وتدوم طيلة العشرة أيام الأولى من كل شهر، وقد لاحظنا استمرار تلك الحملة لشهرين أو ثلاثة، لكن مرت الآن العشرة أيام الأولى من شهر أغسطس، وهاهي العشرة أيام الثانية من هذا الشهر تمر دون أن نلاحظ استئنافا لهذا الحملة، خصوصا وأن أشهر أغسطس وسبتمبر وأكتوبر وحتى نوفمبر هي الأشهر التي ينتشر فيها البعوض في المدينة بشكل لا يطاق، وتظهر فيها أيضا أنواع الحميات المنقولة بواسطة البعوض!! هذا مع ما لا يزال يطبع هذه الحملة من نواقص تتمثل في استخدام سيارات تحمل حاويات رش قليلة السعة، مما يطرها إلى هدر الوقت في تفريغ محتوياتها من المبيد والعودة للتزود ثانية من محطة التزود الوحيدة، الشيء الذي كان يمكن تجنبه من خلال إقامة محطات وفرق ثابتة بكل مقاطعة، وهناك أيضا غياب لعمليات تقييم دورية ميدانية بعد كل عملية رش للوقوف على مدى فاعلية هذه العملية التي تستنفد فيها موارد معتبرة، وتستخدم فيها مواد كيميائية إذا ظهر عدم جدوائيتها فمن الأفضل التخلي عنها والبحث عن بدائل لها.
بخصوص موضوعنا، تعريب اللافتات واللوحات الإشهارية، إذا كانت هناك جدية في متابعة وفرض هذا القرار، فإن هناك حلقة أساسية في هذا الجانب يجب أن يشملها القرار وهي ورشات الخط والإشهار التقليدية والحديثة، فهذه الورشات أحيانا يطلب منها صاحب مؤسسة أو محل تجاري لافتة لا يشترط فيها كتابة لغة أجنبية، لكن اللافتة كلما كانت بلغتين وبخط أكبر حجما كلما كان ثمنها أغلى، وبذلك يصر أصحاب ورشات الخط على كتابة لغتين للافتة حتى دون أن يكون صاحب اللافتة يرغب في ذلك، ومن ناحية ثانية هناك أصحاب ورشات للخط يقنعون أصحاب المؤسسات والمحلات بأن لافتة لا توجد بها اللغة الأجنبية وبخط عريض لا تصلح للترويج! ولذلك يجب إلزام أصحاب ورشات الخط بهذا القرار وتزويدهم بالنموذج الذي يجب أن تكون عليه اللافتات ومعاقبتهم على مخالفته، هذا إذا كان القرار جديا ويراد له التطبيق والمتابعة، أما إذا كان قرارا من أجل إنعاش سوق الورق والحبر، وتزيد الرفوف بقرارات مجمدة فمعذرة..!
قد نتفهم وجود اللغة الأجنبية في اللافتات التوجيهية على الشوارع ومداخل المدن ومخارجها وفي المطارات وغيرها لتوجيه من لا يقرؤون اللغة العربية من الزوار الأجانب، لكن أي شيء أغرب من الإصرار على ترجمة لافتة لمهرجان للمديح النبوي في إحدى القرى في أعماق البلاد وكتابة ( Festival Elmedih Enebewi ) وبخط يكون أحيانا أكبر و أو ضح من الخط العربي؟!
رغم ذلك نجد أصحاب محلات وورشات يتخذون المبادرة ويقتصرون على كتابة لافتاتهم باللغة العربية فقط دون أن يؤثر ذلك على أنشطتهم وخدماتهم، ولي صديق يملك محلا للحلاقة والاستحمام كان يستخدم لغتين في لافتة محله، ومرة أراد تجديد هذه اللافتة وكنت حاضرا وقتها، فقلت له لماذا تملأ واجهة محلك باللغات والألوان وأنت لست في باريس ولا مونتريال أو جنيف وإنما في حي شعبي بنواكشوط؟! وأخذت ورقة وقلما وكتبت له بالعربية: محل (...) للحلاقة والاستحمام وقلت له ممازحا اكتف بهذا العنوان، وإذا لاحظت تراجعا في عدد زبنائك بسبب غياب اللغة الأجنبية في لافتتك فسأدفع لك الفرق.. ففعل، ولا زالت تلك اللافتة على محلة إلى اليوم دون أن يتأثر نشاطه أو دخله. فالإصرار على حضور اللغة الأجنبية في اللافتات هي عادة فقط أصبح الكل يعتقد أن لا نجاح لنشاط بدونها، خاصة في ظل الخواء المعرفي والذوقي وانتشار الأمية وطغيان روح المحاكاة في المجتمع، دون أن ننسى طبعا غياب دور الإدارة الساهر والموجه في مثل هذه الأمور..

20. أغسطس 2016 - 17:22

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا