قبل أيام كتب الأستاذ الفاضل محمد المختار ولد الدمين مدير موقع الجزيرة – نت ، كلمات جميلة عن هجاء المتنبي للسيسي وغيره من حكام اليوم مع كثافة حواجز الزمن السحيق بينهم وبينه وكأنه حاضر شهيد يلاحظ ما يفعلونه اليوم بشعوبهم .
نعم والله لقد صدق الدكتور ومن قبله القاضي الفاضل في قوله "إن أبا الطيب يتحدث عن خواطر الناس" وتجليات ذلك بينة من مقولاته وأبياته الخالدة العابرة للقرون .
فهل فينا من يدانيه في وصفه لواقع الشعوب العربية المغلوبة المسلوبة أمام حكام فرضوا أنفسهم عليها غصبا و"أمُّوها وهي لهم كارهة"، في الوقت الذي هم أضعف الناس غَناء وأكثرهم غَباء، وأكبرها مبنىً وأصغرها معنىً، لقد أجاد وزاد حين قال:
ودَهْرٌ ناسُهُ ناسٌ صِغارٌ ** وإنْ كانتْ لهمْ جُثَثٌ ضِخامُ
أرانِبُ غَيرَ أنّهُــــــــــمُ مُلُوكٌ ** مُفَتَّحَةٌ عُيُونُــــــــــــــــــــــــــــــــهُمُ نِيَامُ
لا يستطيع أحدنا إذن أن يفسر هذه المساحة الشاسعة بين القول والعمل بأبلغ مما قيل.
وكما هو مشاهد يتردى حكامنا يوميا في مواقف مخجلة مخزية في حق شعوبهم وبلدانهم يندى لها جبين كل إنسان سوي، وترفضها فطرته ويشعر بوخز الضمير يمنعه من ارتكابها، لكن المتنبي يفسر لنا بأثر رجعي حالة "موت الضمير" الذي أصيب به هؤلاء الحكام في قوله :
مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الهَوَانُ عَلَيهِ ** ما لجُرْحٍ بمَيّتٍ إيلامُ
أنا لا أعتقد أن أساطين المتخصصين في العلوم السياسة ودهاقين الألاعيب الدبلوماسية على ما بلغوا من ذكاء وطوروا من نظريات إلا عيالٌ – أنكروا أم اعترفوا – على أبي الطيب في مبدئه القائل:
ومن نَكَدِ الدّنْيا على الحُرّ أنْ يَرَى ** عَدُوّاً لَهُ ما من صَداقَتِهِ بُدُّ
فهو يؤسس لفكرة مؤداها أن المصلحة هي الموجه الأساسي للعلاقات البينية والحاكم الفعلي للروابط بين الأفراد والجماعات، أما الصداقة في هذا المجال فليست سوى بشاشة "دبلوماسية" مفتعلة لتجاوز الظرف الراهن لأن الإنسان لا يملك في الدنيا إلا صديقا واحدا هو نفسه، يقول:
خَليلُكَ أنتَ لا مَن قُلتَ خِلّي ** وإنْ كَثُرَ التّجَمّلُ والكَلامُ
وقد زاد الأمر وضوحا حينما قال:
وَلمّا صَارَ وُدّ النّاسِ خِبّاً ** جَزَيْتُ على ابْتِسامٍ بابْتِسَامِ
وَصِرْتُ أشُكُّ فيمَنْ أصْطَفيهِ ** لعِلْمي أنّهُ بَعْضُ الأنَام
حتى الطغيان الغربي والاستكبار الصهيوني الموجه اليوم إلى بلداننا الإسلامية كان جزءا من نبوءات هذا المتنبي، انظر إلى قوله على لسان هؤلاء:
أقَراراً ألَذُّ فَـــــــــوْقَ شَــــــــــــــــــــــــــــــــرارٍ ** ومَراماً أبْغي وظُلْمي يُرامُ
دونَ أنْ يَشرَقَ الحِجازُ ونَجْدٌ ** والعِراقانِ بالقَنَا والشّامُ
أما المتنبي الثائر فقد كان يرسم خطوط الثورة على كل صفحة من ديوانه ويوجه تلامذته ومريديه عن بُعد بما لم يدرك الناس معناه ومغزاه إلا بعد قرون كقوله:
إذا غامَرْتَ في شَرَفٍ مَرُومِ ** فَلا تَقنَعْ بما دونَ النّجومِ
فطَعْمُ المَوْتِ في أمْرٍ حَقِيرٍ ** كطَعْمِ المَوْتِ في أمْرٍ عَظيمِ
وقوله:
لا يَسلَمُ الشّرَفُ الرّفيعُ منَ الأذى ** حتى يُرَاقَ عَلى جَوَانِبِهِ الدّمُ
يقول أحد مترجمي المتنبي: إنه لم يكن من رجال الطعن والضرب ولكنه إذا حضر معركة كانت كلماته أمضى من أسنتها وقوافيه أوقع من نبالها، لقدرته الفائقة على الوصف البليغ والنقل المباشر الذي ينقلك من الغيبة إلى الحضور.
وهكذا فكأن أبا الطيب – طيب الله ثراه – كان يستشرف ما سيحصل في بلاد الشام الحبيبة إلى نفسه من دمار وخراب وتشرد جعل الإنسان الدمشقي ينبو به المضجع ويجافي جنبه الفراش فينشد على لسانه:
مَبيتي مِنْ دِمَشقَ على فِراشِ ** حَشاهُ لي بحَرّ حَشايَ حَاشِ
ثم تراه يصف ما آلت إليه حال العراق من الفشل وفقدان الأمل وما صار إليه حال شباب مدينة حلب الشهباء بعد أن "نُعيت" النخوة العربية وماتت الإنسانية في نفوس ملوكها ورؤسائها فيقول:
أرَى العرَاقَ طوِيلَ اللّيْلِ مُذ نُعِيَتْ ** فكَيفَ لَيلُ فتى الفِتيانِ في حَلَبِ
ومن منا يصدق كيف جرى على لسانه تصوير مشهد الحرب بسمائها المجللة بالدخان وأرضها المرتجفة على وقع الصواريخ والبراميل وسكانها الشاخصة أبصارهم تحسبا وتخوفا من الهجمات الغادرة القاتلة:
والشمسُ في كبد السماء مريضة ** والأرض واجفة تكاد تمور
وحَفيفُ أجنِحَةِ (المَراوح) حَوْلَهُ ** وعُيُونُ أهلِ اللاّذقِيّةِ صُورُ
أو قوله وكأنه يرقب موجات النزوح بين المدن طلبا للنجاة ولكن لا نجاة:
وليس بغير تدمُر مستغاثٌ ** وتدمرُ كاسْمها لهمُ دمارُ
وبعد،
فتلك إضاءات بسيطة من هذا الديوان ترسخ فكرة أن المتنبي فعلا كان يتكلم عن خواطر الناس ويتجسس على خلجات نفوسهم فيجدون في كلماته ما ينشدون ويدونون بها ويغردون تأكيدا لقوله في قصيدة أخرى:
وَمَا الدّهْرُ إلاّ مِنْ رُواةِ قَصائِدي ** إذا قُلتُ شِعراً أصْبَحَ الدّهرُ مُنشِدَا
فَسَارَ بهِ مَنْ لا يَســــــــيرُ مُشَمِّراً ** وَغَنّى بهِ مَنْ لا يُغَنّي مُغَرِّدَا