لعله من شبه المسلم به أن الرهان الأكبر لدى شعوب العالم الثالث يكاد ينحصر في إشكالية التنمية بكل أبعادها العلمية والحضارية والجيوسياسية، فعبرها يتم حل الكثير من المتاعب التي ظلت وما زالت الدول النامية تصطلي بنارها، وفي مقدمتها قضايا التبعية والبطالة وتوفير العملات الصعبة،
وتذبذب الأسعار، وهجرة الأدمغة الوطنية، والتوترات الاجتماعية، وما تزال هذه الدول تبحث، أو على الأصح تحلم، بالعثور على أفضل السبل للاستفادة من ثرواتها المتنوعة، وإرساء القواعد السليمة لإنشاء صناعة وطنية تهيمن على سوقها المحلي، وهو ما سيؤدي في النهاية إلى خلق بنية اقتصادية قادرة على الرفع الحقيقي من المداخيل الضرائبية، التي بدونها لا يمكن تدبير رأسمال حر يمكنها من "تقرير مصيرها الاقتصادي" بنفسها، حسب أولوياتها الملحة ومقاسها الخاص..الخ
ومن البديهي أنه عند الحديث عن المشاريع التنموية تثور مشكلة رصد رأس المال لانطلاقة هذه المشاريع الطموحة.
وحسب خلفيتي المعرفية المتواضعة والمحدودة عن الموضوع، يوجد حلان أمام دول العالم الثالث، خارجي وداخلي؛ فإما أن تلجأ إلى الصناديق الدولية، ولكن مشكلة هذه الأخيرة أنها مشروطة وموجهة للتدخل في جوانب ذات صبغة اجتماعية(الصحة، التعليم، الغذاء، البيئة ..الخ)، فليس من المعقول أن تساهم الدول المانحة الغنية في إقامة مصانع ومشاريع إنتاج معتبرة يمكن أن تشكل خطرا على إنتاجيتها الوطنية، فهذه الصناديق هي في الحقيقة عبارة عن وكالات لتوزيع الصدقات بين الدول الفقيرة والفاشلة ومد يد العون للدول التي توجد في وضعية إفلاس شامل، والغالب أن تكون المحصلة النهائية لتدخلات هذه الصناديق مديونية رهيبة تثقل كاهل هذه الشعوب الفقيرة، مع جدوائية محدودة بسبب الفساد وسوء التخطيط وضعف الرقابة؛ وإما أن تقرع أبواب الشرائك الدولية، حيث المفاوضات غير متكافئة، والمنافسة شرسة، وفريق التفاوض تنقصه الخبرة وغير محصن في وجه الإغراءات المعروفة. وهذه المؤسسات المالية العملاقة الغامضة والمتعالية على السيطرة وذات الخبرة الطويلة في استنزاف ثروات الشعوب تحب العاجلة وتفضل الاشتغال في مجال الثروات المعدية، فتقوم بنهبها وترمي بالفتات لأصحابها، مدمرة بذلك مستقبل الأجيال القادمة.
ويكمن الحال الثاني في توفير رأسمال وطني داخلي، ولكن هذا الحل تقف في وجهه عقبات عديدة، منها ضعف المجال الضريبي وانعدام الوعي الوطني بأهميته، وعدم قناعة المواطن بجدوائية الأموال التي يدفعها في ظل الفضائح المالية التي صاحبت قيام الدولة إلى اليوم، وبتالي، ظلت الدولة تعاني من ضعف الناتج الخام الوطني، مع تعدد وازدياد أوجه الصرف والالتزامات، وارتفاع مديونيتها الخارجية والداخلية.
وهناك حقيقتان مقلقتان في هذه المجال، هما الازدهار المتنامي لأنشطة القطاع غير المصنف، الخارج عن سيطرة المحاسبة الوطنية للضرائب، وقد ولجه الكثير من رجال الأعمال، هروبا من الضرائب ومن التزامات إنشاء المؤسسات الرسمية، وبحثا عن الربح بأقصر الطرق وأقلها تكلفة.
أما الحقيقة الثانية فهي اعتماد الدولة بشكل كبير على ضريبة الواردات لتدبير ميزانيتها السنوية، وأي مراجعة أو توقيف لبعض هذه الواردات قد ينجم عنه اختلالات خطيرة تمس من التزامات الدولة المالية، وهذا يفسر عدم جديتها في دعم بعض المنتجات الوطنية، وعجزها عن خفض أسعار بعض المواد، بل والاستمرار في رفعها.
أما والحالة هذه، فقد يكون من الوارد حسب رأيي المحدود القيام ببعض الإجراءات التمهيدية، مثل:
- إحصاء الكفاءات الوطنية العلمية والفنية التي يمكن أن تشارك في عملية تنموية تصنيعية؛
- إحصاء المصادر الأولية (من الثروات الوطنية) الجاهزة والقابلة للاستخدام؛
- إحصاء مكونات الاستهلاك الوطني (على مستوى النوع والحجم والتوزع)؛
- خفض التضخم الإداري في عمالة الدولة( الوظائف القيادية والسلاسل الهرمية المصطنعة) على المستوى المدني والعسكري، الذي يشكل ما يعرف بالبطالة المقنعة، و يمتص الكثير من موارد الدولة.
- القيام بحملة تحسيس شاملة بين صفوف أرباب العمل والبنوك الوطنية الخاصة وأصحاب الثروات من أي نوع حول فرص الاستثمار وضرورة الانخراط في عملية تنموية شاملة مفيدة للجميع، مع توفير الدعم لها تشريعيا وإداريا، ووضع الكل تحت وطأة ضغط سياسي وشعبي، باعتبار ذلك خيارا وطنيا مقدسا.
وبعد هذه الإجراءات يمكن القيام بالخطوات التالية:
- مرتنة إنتاج المواد المعروضة في أحد الحوانيت الوطنية العادية بنسبة 30 – 50%، في مرحلة أولى، مع مراعاة قدرات السوق المحلية؛
- يتم ذلك بالتعاون بين أرباب العمل والبنوك الوطنية الخاصة والصناديق السيادية للدولة؛
- مراعاة اللامركزية في توزيع مؤسسات الإنتاج بين الولايات الداخلية؛
- دعم هذه العملية الإنتاجية بإنشاء مؤسسات للتوزيع، وتوفير الطاقة الكهربائية اللازمة، وتحسين كفاءة شبكات الطرق، ولعل اتساع أراضي الدولة الموريتانية وصعوبة تضاريسها باتا يفرضان ضرورة التفكير بجدية في إقامة خطوط للنقل بالقطارات بين أركان البلاد، باعتبارها شرايين لا غنى عنها لانسيابية تدفق البضائع والأشخاص داخل كل زوايا البلد، بسرعة وأمان قياسيين؛
- توفير الحماية الجمركية الصارمة والدؤوبة، وتزويد الجمارك بالوسائل اللازمة لذلك؛
- يمكن سد الحاجة مؤقتا في إنتاج بعض المواد بالتعاون مع مؤسسات مختارة وفق نظام الرخصة sous licence.
ويبقى تحقيق مثل هذه الاقتراحات مرهونا بوجود نظام سياسي يتمتع بقوة الإرادة والطموح الكافيين، ويختار لجهازه الإداري رجالا أكفاء، بعيدا عن الصفقات السياسية والإكراهات القبلية وعمل لوبيات الضغط المستشري في كيان دول العالم الثالث.