"تعتبر الطبقة المتوسطة في أي مجتمع صمام أمان وعامل استقرار، و كلما اتسعت قاعدة هذه الطبقة كان ذلك دليلا على استقرار و عافية المجتمع وصحة حراكه"
بحسب التعريف المقتضب جدا لموسوعة "ويكيبيديا" العالية التصفح فإن "اسم الطبقة المتوسطة Classe moyenne يطلق على فئة المجتمع التي تقع
في أوسط الهرم الاجتماعي. وبحسب اصطلاح عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر Max Weberفإن الطبقة المتوسطة هي الطبقة التي تأتي اقتصادياً و اجتماعياً بين الطبقة العاملة و الطبقة العليا. كما تختلف مقاييس تحديد الطبقة المتوسطة باختلاف الثقافات و المجتمع ذاته".
عند الاستقلال لم يكن من وجود مطلقا في الدولة البدوية طبقة من الأثرياء تملك القصور و الاطيان و الجنان و لكن طبقات أرستقراطية بمفهوم النفوذ على مجال ترابي:
· تبسط اليد على الثروة الحيوانية ـ الميسرة البدائية الوحيدة ـ و إن للجميع ـ أسيادا و محكومين ـ نصيب يكاد يكون متساو فيها بحسب منطق و قانون الطبقية و الشرائحية السائدين،
· و لها عين الرقيب و الحامي المستفيد من محصول الزراعة على إقطاعها الترابي و إن أيضا لكل و بنفس القياس و الدرجة نصيب منها.
و هو الواقع الذي كان، إن أُمعنَ النظرُ و اعتُمد التجردُ، يضعُ الجميع في خانة ليس التفاوت بين أهلها سوى تفاوتا في الدرجة التراتبية و المكانة المعنوية و الريادة على رأس الهرم. و كما أنه الوقع أيضا الذي غابت بموجب سطحيته المجردة من الطموحات المادية المغلظة ظاهرة "القصور" العامرة التي تؤوي النبلاء و "الحصون" المنيعة و "الأبراج" العالية التي تحميهم و ترسم الفرق الكبير بينهم و بين الرعية و اللأتباع و الحواشي بجمال المعمار و صلابة البنيان.
و لم يغير أفراد الرعيل الأول من الذين لعبوا أدوارا في حكم الدولة الناشئة هذه القاعدة العامة في تقارب الأوضاع المادية حيث ظلوا بعيدين عن جمع الثروة و توسيع نطاق استثمارها لتثبيتها و مضاعفتها، كما لم يسعوا إلى تحويل أنفسهم لطبقة "عليا" بمنطق الواقع الجديد الذي أخذت فيه المادة كل معناها و أبعادها لإرساء المكانة و توطيد النفوذ و ضمان الحضور، و فاتهم أن يفكروا بنفس المنطق العصري في خلق طبقة "وسطى" تدعم التغيير و تحفز الطبقة "الدنيا" ـ التي بدأت بالرغم من كل شيء تتحول من مجرد واقع ذهني و شعوري لحقيقة مرة في المدن و تشكل "أحزمة" بؤسها ـ إلى الالتحاق بها للعبور إلى مصاف الطبقة العليا في حركة عمودية منسابة تضمن البناء المضطرد و تدعم الاستقرار أفقيا.
و حل الجفاف ضيفا ثقيلا على عملية التحول متزامنا مع حرب الصحراء التي اندلعت في منتصف سبعينيات القرن المنصرم لتصاب عملية البناء من الصفر بالتشوهات الخلقية و أعراض الشلل ليهاجر أهلُ الريف مكرهين لا رواد بناء إلى العاصمة نواكشوط و بعض المدن الكبرى و من ثم يدخل البلد في مسلسل من الانقلابات التي كان من أشد أضرارها وقعا و أفتكها برهان القيام على أسس صلبة أن فتحت مصراعي باب لم يوصد على نهب الأموال العمومية و تكديسها في غير ما استثمار و تبذير المقدرات و المدخلات و اعتماد الفساد نهجا و سلوكا و نمطا تسييريا و وَأدُ حلم ميلاد "طبقة متوسطة" كان بدأ يدغدغ الأذهان القليلة الصاحية و المتنورة يومها لتقلص بقوتها تمدد الطبقة الفقيرة أو "الدنيا" الكبيرة إلى الأعلى و لتمتص إلى أدنى الحدود الممكنة وطأة و سطوة الطبقة "العليا" الثرية على يقين بأن رقيّ المجتمعات ومدى استقرارها يقاسان باتساع رقعة الطبقة "الوسطى" التي تشكل محرك النشاط والاستثمار الاقتصاديين و تعتبر بذلك صمام أمان الوطن، ومفتاح إعادة إنتاجه، و بأنه كلما اتسعت زاد تجانس المجتمع، وكلما تقلصت زادت الهوة بين أفراده و مجموعاته و شرائحه.
و لأن تصحيح البدايات شرط النهايات قاعدة أبلغ من الف "احتكام" إلى ألف "تقييم" لحالة واقع أو نازلة أو استنتاج عواقب ألمت بالدولة أو مجتمعها فإن قواعد التأسيس لطبقة متوسطة في موريتانيا لم تتجاوز يوما طور حُلم أقلية من المثقفين و السياسيين تبينوا ضرورة أن تصحب عملية البناء و التطور و التحول أسوة بدول العالم الأخرى. و لكن ضعف الطبقة العاملة الواعية الحية خيب الآمال و أرهق الحلم حتى دخلت الدولة الوليدة من رحم الاستعمار و صلب البداوة في سبات التأخر عن الركب لتستسلم من جديد لآفات "سوء الحكامة" و سطوة "الارستقراطية" التي و إن غيرت الثوب فإنها لم تنفصم عن الجوهر في صميم عقلية "السيبة" قبل الدولة لتترسخ مفاهيم السطو على المال العام و تنتشر مناهج التبذير و أساليب الفساد من تسيير مجحف و استهتار بمقدرات البلد في إسراف شديد على أيدي قلة تصل إلى مبتغياتها المدمرة بكل الحسابات المختلة و لا تضع في حسبانها و لو لضمان بقائها أسس ميلاد طبقة وسطى حيوية و فاعلة قادرة على تصحيح وجهة البوصلة المضطربة إلى مسار أكثر أمنا و أمانا في عالم ثلاثة أرباعه أو تزيد من الطبقة الوسطى. ولكن هل يا ترى أن السيف قد سبق العذل و بات من المستحيل تدارك الأمر أم أن ضرورة و إلحاح خلق هذه الطبقة يترك باب الأمل إلى وجودها مفتوحا رغم تجاوز أمرها منذ الاستقلال فيصدق فينا قول الشاعر:
شرط النهايات تصحيح البدايات *** وفـاقد الشـرط بالـمشروط لا ياتي
فـصحح الـبـدء في أمر تحاولــه *** وارع النتيجة في الأمر الذي تاتي