في ظل النظام الوطني الحالي تتوفر في موريتانيا حرية تعبير لا مثيل لها في محيطنا العربي والإفريقي. إلا أن تلك النعمة تكاد تتجاوز حدود الحرية والديمقراطية وتصبح فوضى عارمة هدامة.
وفي جو هذا الانفلات، تشن الصحافة الصفراء التي تتدفق وتنمو كالفطر في بلادنا،
عقب كل إنجاز يحققه الوطن وفي إثر كل هزيمة تلحق بمخطط من مخططات المفسدين، حملات مغرضة هدفها نشر الأكاذيب، واختلاق الفضائح، وخلط الأوراق، والدعوة للإحباط والانهزام. ومع أنه ما يزال يوجد في ميدان الإعلام صحفيون محترمون ومحترفون يبذلون قصارى جهودهم في صيانة شرف مهنة الإعلام المقدسة وحماية مصداقية ما بقي من وسائل الإعلام الملتزمة برسالة صاحبة الجلالة النبيلة، ويحاولون - قدر الإمكان- النهوض بواجب إعلام وتنوير المجتمع، فإن ضغط وتأثير وتدمير وتخريب الصحافة الصفراء يكاد يطغى ويسيطر على الساحة الإعلامية؛ خاصة من حيث كمّها وكثرة الوسائل التي يغدقها عليها شياطينها المتمرسون.
وفي هذا الظرف بالذات تجب مواجهة هذا "الإعلام" على صعيدين اثنين هما صعيد الشائعات المتعلقة بالتعديلات الوزارية والإقالات والتعيينات، وصعيد الشائعات المشككة في محاربة الفساد وعدالة المحاكمات المرتبطة به وبغيره من الجرائم:
1. حول شائعات "التعديلات الوزارية والإقالات والتعيينات".
منذ نجاح القمة العربية أخذت الصحافة الصفراء تنفث - اعتمادا على "مصادرها الموثوقة"- سيلا من "المعلومات" حول "تعديلات وزارية شاملة تطيح بالجميع" و"إقالات وتعيينات تتناول معظم المرافق" و"قرب التخلص من حكومة الوزير الأول".. و"احتدام الصراع بين الأجنحة في الحكومة".. و"انعدام تجربة غالبية الوزراء الحاليين".. و"دعوة فلان وعلان ليحمل الصولجان".. الخ.
وبما أنه لا يخفى على من يراقب الوضع السياسي عن كثب، أن مجمل هذه الشائعات يقصد من ورائه تحقيق هدفين أساسيين، أولهما: صرف النظر عما حققته البلاد في هذا العهد من إنجازات اقتصادية واجتماعية في الداخل، وما بنته من سمعة في الخارج؛ خاصة بعد إرساء وتوطيد حرية القرار الموريتاني، والنجاح في قيادة إفريقيا وفي التنظيم الفريد للقمة العربية، والثاني إرباك وزعزعة العمل الحكومي الناجح في مجمله. وخاصة بعد ارتكاب الرئيس محمد ولد عبد العزيز لمحظور تجاوزِ الخطوط الحمراء المرسومة سلفا، وذلك عندما أدخل في حكومته كوكبة من الشباب التكنوقراط الذين لا يلتحفون عباءة الحزب الحاكم أو الموالاة، ولا تظلهم خيمة القبيلة بظلها؛ الأمر الذي يشكل منكرا في عرف القوى الحاكمة، واستفزازا ما فوقه استفزاز لمشاعر طوابير الحالمين بالعودة في محيطي الموالاة والمعارضة ممن لا يفرقهم سوى مقر الإقامة المؤقت واللافتات التي يرفعونها.
وبما أن هذه "الصحافة" والأوساط التي تقف وراءها لا يهمهم من أمر البلاد سوى التعديلات الوزارية، ومن أمر اجتماع الحكومة سوى التعيينات والإجراءات الخصوصية، لأن ولوج المسؤول إلى المنصب - في نظرهم- هو الذي يمنحه مفتاح الاستحواذ على المال العام الذي هو هدفهم المنشود، فإن الرد الوطني المسؤول على شائعاتهم يجب أن يكون هو: أن لا يجري من التعديلات الوزارية ولا من التعيينات الخصوصية إلا ما هو ضروري جدا، ومبرر جدا، إما بسبب تقاعد، أو تجاوز، أو خطأ من يتم إعفاؤهم، وكفاءة وأمانة وإخلاص من يسند إليهم المنصب. هذا مع تفعيل أجهزة المراقبة والتفتيش، ومع تطبيق مبدأ المكافأة والعقاب بحيث لا تأخذنا في الإصلاح لومة لائم.
2. حول التشكيك في محاربة الفساد (قضية سونمكس نموذجا) وفي عدالة الإجراءات والمحاكمات المرتبطة به وبغيره من الجرائم.
ولم تسلم محاربة الفساد والمحاكمات المرتبطة به وبغيره من الجرائم - هي الأخرى- من افتراء الصحافة الصفراء؛ بل كان لها نصيب وافر منه! خاصة مع اكتشاف نهب مخازن سماد سونمكس وما تلا ذلك من بحث وتفتيش، وبدء محاكمات ازويرات وانواكشوط.. إذ من الطبيعي أن لا يرضى المفسدون عن محاربة الفساد واكتشاف وملاحقة بعض بؤره واسترجاع أموال وهيبة الدولة وتكريس سلطة القانون.
وفي هذا المجال يجب أيضا عدم الاستهانة بالموضوع وإعطاؤه ما يستحقه من عناية؛ ذلك أن الحرب المستعرة على الفساد في بلادنا يجب أن تظل قطب الرحى ومربط الفرس في عمل الحكومة. مع العلم بأن محاربة الفساد لا تتأتى دون الصدق والشفافية في القول والعمل، وتحكيم وتطبيق القانون.
وعليه، فإن الرد الحاسم على افتراء الصحافة الصفراء في هذا المجال يجب أن يرتكز على المسائل التالية:
* إحقاق الحق، ونبذ المجاملة والانتقائية، وعدم التأثر في العمل بما تبثه تلك الصحافة من سموم غرضها تضليل الرأي العام وصرف النظر عن المجرمين الحقيقيين ومؤاخذة الأبرياء والضعفاء ظلما.
* توطيد ومراقبة أجهزة التفتيش والبحث والتحقيق والحكم، حتى نكون على بصيرة من الأمر فيهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيي عن بينة. وفي هذا الصدد يجب الاستغناء عن مساطر التلبس والاعتماد على ما يكشفه التحقيق؛ شرط أن يكون التحقيق على المستوى المطلوب.
* ضمان سيادة القانون وتنزيله وتطبيقه على النازلة دون شطط أو ظلم، ودون هوادة أو تساهل أيضا؛ إذ لا أمن ولا أمان ولا تنمية ولا ازدهار في غياب العدالة وانتهاك صريح القانون. وما يزال يوجد قسط وافر من ذلك يجب أن يكون القضاء عليه من أولى أولويات الدولة الموريتانية.