تعتبر الصحافة في جميع دول العالم مهنة المتاعب، تنير المجتمع، وتوجه الرأي العام، وتراقب، وتنتقد أداء الأنظمة، أو بعبارة أخرى يحترق الصحفيون ليضيئوا للآخرين دروبهم، ولم تكن الصحافة يوما مهنة للمترفين، أو مجالا للمهتمين بالثراء، ورغم ذلك باتت الصحافة سلطة رابعة لا غنى عنها
في أي بلد ينشد الديمقراطية، والتنمية، وقد شهدت موريتانيا خلال السنوات الأخيرة طفرة كبيرة في مجال الإعلام، كما، وكيفا.
ورغم احترامنا للجميع، وخاصة قدماء الصحافة، أو"العمداء" كما يحلو لهم أن يدعو، إلا أنه ينبغي لفت الانتباه إلى النقاط التالية:
أولا: أن الصحافة لم تشهد من الدعم، والرعاية مثل ما شهدته في ظل نظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز، فلأول مرة تم إنشاء صندوق بمئات الملايين يتم صرفها للصحافة الخاصة، وهي مبادرة فريدة من نوعها حتى على مستوى العالم، فمعروف أن الصحافة الخاصة تعتبر مؤسسات خصوصية، ليست الدولة مسؤولة عن دعمها من المال العام، بل تفرض عليها الضرائب، هكذا هو الحال في جميع أنحاء العالم، فدعم الصحافة الخصوصية من أموال دافعي الضرائب بادرة تذكر فتشكر لهذا النظام.
ثانيا: إن الحديث عن قطع أرزاق الصحفيين، أو تجفيف منابعهم، ومحاصرتهم ماليا حديث مبالغ فيه جدا، فما حدث هو أن الأموال التي كان يأخذها الصحفيون من مؤسسات الدولة تولت الدولة جبايتها نيابة عنهم، ووضعتها في صندوق يشرف عليه الصحفيون أنفسهم، ويوزعونه حسب معاييرهم الخاصة، ولا دخل للدولة في ذلك، صحيح أن هذا سيغضب البعض، ممن كانوا يستحوذون على كل شيء، مستخدمين علاقاتهم الشخصية، ونفوذهم داخل مؤسسات الدولة، ولا يتركوا شيئا للصحفيين الشباب الذين يكدحون، وينتجون، وليست لديهم علاقات شخصية داخل أروقة الحكم، فما حدث مع دعم الصحافة، هو تماما مثل ما حدث مع سكن موظفي الدولة، حيث كانت نسبة قليلة من الموظفين تحصل على مبالغ كبيرة لتأجير المنازل، وتحرم الغالبية الساحقة من ذلك، فتم تقسيم المبلغ بعدالة على جميع مستحقيه، وطبيعي أن ينزعج البعض من ذلك، ممن كانوا يستولون على الكعكة بمفردهم.
ثالثا: إن مهاجمة الحكومة، والوزير الأول شخصيا، ونعته بأوصاف لا تليق ليست أفضل السبل لملء الجيوب، بل إن ذلك يعطي مسوغات للرأي القائل بأن التنديد بوقف دعم مؤسسات الدولة للصحافة في هذا الوقت تنديد يهدف لتحقيق مكاسب شخصية لجهات، وأشخاص بعينهم، خاصة وأن القرار هذا صدر منذ أشهر عدة فلماذا يأتي التنديد به اليوم متأخرا ؟، المعلومات المتداولة أن جهات عليا في الحكومة رفضت تلبية مطالب شخصية لجهات بعينها فبادرت إلى شن هجوم على الحكومة بحجة الدفاع عن الصحافة.
رابعا: إن دق الأسافين بين رئيس الجمهورية، وحكومته، والتفريق بين الإثنين يعبر بالفعل عن "بلادة سياسية" – والتعبير للمفكر محمد المختار الشنقيطي- فالحكومة في النهاية حكومة رئيس الجمهورية هو من عين رئيسها، وأعضاءها، وتنفذ تعليماته حرفيا، وتستشيره في كل صغيرة، وكبيرة، ومن يظن أن الحكومة بمعزل عن الرئيس، تطبق سياسات لا علم للرئيس بها إنما يتجاهل الحقيقة لحاجة في نفسه، لذلك فهذا الأسلوب بائس لا يعود بنتيجة على منتهجيه.
خامسا: السؤال الأبرز، ماذا حققت الصحافة للوطن، والمواطن حتى نطالب الدولة بدعمها من مال الشعب ؟؟..
هل ندعمها من مال الشعب لأنها تنشر الشائعات، وتمتهن الابتزاز، وتروج الأخبار التي تضر بالمصلحة العليا للبلد في بعض الأحيان ؟؟ هل على الدولة أن تصرف لبارونات الإعلام حتى يتمكنوا من تمويل أسفارهم العبثية للخارج، ويركبوا رباعيات الدفع اليابانية، ويشيدوا العمارات في أحياء صكوكو، والصحراوي، مقابل بث الأخبار المغلوطة في الصالونات، والمكاتب، وصناعة رأي عام زائف؟؟.
هل على الدولة أن تدعم صحافة تشتت المجتمع، وتضرب بعضه ببعض، وتذكي نار الفتنة، والعصبية، والعنصرية، وتنهش أعراض الأفراد، وحرمة المؤسسات ؟؟...
هل يعتبر دعم الدولة للصحافة الخاصة من أموال الشعب عطاء من لا يملك لمن لا يستحق ؟
نحن هنا لا نلقي الصحافة في سلة واحدة، ولا نحكم عليها بالمجمل، فأكيد هناك مؤسسات صحفية وطنية رائدة، تمارس عملها بشرف، وتؤدي رسالتها النبيلة، وهنا لن أقع في لعبة التعيين، لا سلبا، ولا إيجابا.
وخلاصة القول إن قرار الحكومة قطع الدعم الذي تقدمه المؤسسات للصحافة، مقابل زيادة مبالغ صندوق دعم الصحافة الخاصة هو قرار صائب، ومنصف، ويصب في مصلحة الصحافة عموما، والدليل على ذلك أن المحتجين عليه هم قلة ممن كانوا يستأثرون بكل شيئ، واليوم باتوا مجبرين على المنافسة بشفافية مع زملائهم، وفقدوا بذلك امتياز العلاقة بالمدير، والوساطة، وتساووا مع الجميع، وهنا مربط الفرس.