يعود مصطلح الرأي العام (Opinion publique) إلى بدايات تشكل الطبقة الوسطى في أوروبا واحتدام الثورة الاتصالية، رغم استخدامه ـ تصريحا أو تلميحا ـ قبيل وأثناء عصور التنوير من طرف بعض المفكرين والفلاسفة آن ذاك. ليتطور لاحقا بشكر سريع مع تنامي الديمقراطية السياسية
والنشاط الإعلامي والاتصالي المكثف مع الشبكة العنكبوتية، واتساع البحوث والنظريات الاجتماعية في هذا المجال، الفضاء العام (هابرماس) والعقل الجمعي (دور كايم).
ويطلق مفهوم الرأي العام على ذالك الجمهور الذي يتمتع بدرجة عالية من الاتصال بين أفراده رغم أن هؤلاء الأفراد قد لا يعرف بعضهم بعضا بالضرورة، لكن الاتصال هنا معرفي بالأساس، ويتمثل في وحدة المواضيع ومعايير مقارباتها وقواعد التعرض لها حتى ولو اختلفت الرؤى حيالها.
ويتكون جمهور الرأي العام من الصفوة الذين هم المفكرون وراود المعرفة من مسئولين وإداريين سامين وأكاديميين، بالإضافة إلى النشطاء السياسيين والصحفيين والمثقفيين والأدباء، الذين يؤثرون في القرار السياسي من جهة، والتوجه الجماهيري لدى بقية الفئات التي لا تهتم بالقضايا والأمور العامة إلا في أحايين نادرة جدا وموسمية.
وبالإضافة إلى تأثير هذا الجمهور على مركز القرار ( الرأي العام المسيطر) تقوم هذه النخبة بدور فعال في عمليات تلقي وصناعة المضامين الإعلامية وشرح أهدافها ومراميها للمتلقي البسيط بطريقة موضوعية إن لم تكن حيادية.
وفي موريتانيا تغيب بشكل شبه تام كل معطيات هذا التصنيف من معالم الحياة اليومية في التعاطي مع الأمور العامة وأساليب مقاربة وفهم التحولات والقرارات المصيرية، التي غالبا ما تمر دون تعليق، لأن النخبة في مجتمعنا الموريتاني لازالت تعاني من التشتت بين عاملي التدجين والأدلجة من جهة، وعوامل ورواسب البئة وتأثيراتها من جهة أخرى، وذالك رغم ما شهدته العشرية الأولى والثانية بعد الاستقلال من حراك نخبوي أدى بشكل أو بآخر إلى اتخاذ قرارات وإصلاحات هامة في نجاح مشروع الدولة الوليدة آنذاك، كما ألقى بظلاله على مستويات تناول المواضيع العامة في الفضاءات القليلة المتاحة حينها، قبل أن تختفي تدريجيا هذه النخبة (بفعل الهجرة أو ضغط الواقع) من نقطة الفصل والوصل، التي هي مصدر بناء الرأي العام المتزن والموضوعي، عبر المنابر الإعلامية التحليلية والفضاءات العامة والمنتديات الجماهيرية.
وقد تسبب هذا الفراغ فيما نشهده من غياب الاستيراتيجية ذات الأمد الطويل، في مختلف القطاعات التنموية، والمبنية على دراسات علمية، لا تتأثر كثيرا بتعاقب الأنظمة السياسية. كما أنه أدى إلى غياب النماذج الناصعة لدى خرجي الجامعات، وبالتالي تدني المستويات العلمية، والمحصول المعرفي، وانعدام الطموح نحو الاكتشاف والإطلاع، من أجل إضافة الجديد وريادة الإبداع، للحاق بمصاف الأمم المتقدمة.
كما أن هذا الواقع المزري لأغلب وسائل الإعلام يعتبر من أسوأ نتائج هذا الفراغ الذي أدى إلى ندرة الكفاءات المؤهلة لمعالجة مختلف المواضيع المطروحة، ضمن سياقاتها المختلفة، مثل خصوصيات البيئة والمجتمع، والمساطر التشريعية، فضلا عن المفاهيم العلمية... دون الوقوف عند المظاهر اليومية والتجليات الآنية لهذه المواضيع.
وفي الآونة الأخيرة يمكن أن نلاحظ تشكل ملامح جمهور فيسبوكي موريتاني يسعى إلى الاهتمام بالقضايا العامة ويتابعها أولا بأول بالتعليقات والتنقيح، وأحيانا بالانضواء تحت وسم موحد (هاش تاك) للمطالبة بأمر معين أو الوقوف ضد أمر آخر، وأحيانا يكون لهذه الأوسمة حراك يجسدها على أرض الواقع، (ماني شاري كزوال). وتبقى أحيانا أخرى في حيز التدوين على الصفحات الزرقاء. وقد حظي رأي هذا الجمهور (الافتراضي) باهتمام كبير، ومتابعة واسعة حتى من خارج رواد شبكات التواصل الاجتماعي.
ومن أجل نجاح هذه الخطوة في تشكل نخبة الرأي العام الموريتاني، على أرض الواقع، يجب أولا أن ننمي فيما بيننا ثقافة المدينة والإنتاج للمدينة، إذ هي أساس التفكير في إطار الجماعة، و منشأ مفهوم العمومية، والإيمان بها يقتضي المشاركة في بنائها والسعي نحو ازدهارها وتطورها كبنية تحتية ومصالح عامة ، وكذالك كبنية فوقية يتطور فيها الوعي المعرفي، وتزدهر فيها فضاءات المشاركة والتبادل الثقافي والعطاء العلمي الرزين، وفي سبيل ذالك لا بد أن يخرج أكادميو النخبة الجدد عن تلك القوالب الجاهزة سلفا لاحتوائهم، كمسارات الأدلجة النمطية وإكراهات التدجين التطويعية، وتأثير البيئة ورواسبها البدوية، بحثا عن الحقيقة والتجديد لإثبات أن بالإمكان أبدع مما كان.