سبق في القدر المحتوم أن لا حياة دنيوية إلا واحدة، ومن المسلّمات في العالم غير السينمائي ألا تعدّدَ الشخصيات في شخص واحد، وقانون الثالث المرفوع من القوانين المقرّرة المسلمّة التي ينبني عليها المنطق، ولا سبيل للمرور من جانب الجدران القوية لهذه المسلمات والقوانين إلا المطالعة.
وذاك شيء أدركه عباس العقاد، وأدركه محمد الرطيان، حين قال في وصاياه لابنه: "بإمكانك أن تشعر بصقيع موسكو، وتشمّ رائحة زهور أمستردام، وروائح التوابل الهندية في بومباي، وتتجاذب أطراف الحديث مع حكيم صيني عاش في القرن الثاني قبل الميلاد! بإمكانك أن تفعل كل هذه الأشياء وأكثر، عبر شيء واحد: القراءة".
نعم..... دوام القراءة وطول مساكنة الكتب يعطيان أكثر من ذلك، حيث يورثان قوة خارقة تخترق الحجب التي تحجبك عن رؤية التاريخ، وتجعلك تنظر إلي الماضي وأحداثه كما تنظر إلى مشاجرة تقع خلفك، كما يخترقان الحاجب عن رؤية المستقبل حتى تنظر إليه كما ينظر السائر في وضح النهار إلي جهة مقصده، ويجعلان قوة البصر لا محدودة فتصير بإمكانك رؤية جنوب الجنوب، وشمال الشمال، وغرب الغرب، وشرق الشرق، وأقصي الأقصى، وأنت بين رمال "شنقيط" تحفك من كل جانب.
وفي القراءة قد يقصر عمرك حسّاً، وهو طويل معني، فالنووي قصر عمره كما يدّعي المترجمون، وهي دعوى ذات قصور أتاها من كونها أغفلت إمكانية استخدامه لبعض عمره في كتاب بطريقة ما، ولم نعلم.
وفي القراءة قد يتزوّج أحدهم كيفما شاء، ووقتما شاء، وبدون علم أيّ أحد وبدون أي حد للعدد، فابن تيمية غالب ظني أنّه تزوّج في كتاب ما، ولعلّ حديثاً من أحاديث النبي صلي الله عليه وسلم عقده مع قصة تاريخية حسناء، ولو كان ابن القيم حيّاّ، وسئل لأجاب بالإيجاب، والشنافي عاش نيفاً وتسعين، والذائع بين ذويه ومن عايشوه عدم زواجه، لكن من الورع عدم قولهم بذاك؛ فلعله تزوّج بين جنبات كتاب ما، في لحظة غفلة منهم أو غيبة.
وبالقراءة، تحضر قابيل وهابيل، وهما يقربان القرابين، وتشاهد الغراب وهو يُرى الأخ كيف يواري سوءة أخيه، وتأكل من لحم عجل إبراهيم حين أبت عنه الملائكة، وترى يوسف في البئر بعد أن رماه إخوته، وترق له فتهم بمساعدته، فتسبقك القافلة إليه، وترى هاجر وهي تريد أن تنقذ أباك إسماعيل فتعجز عن إعانتها، وتنحو نحو اليونان فترى الفلاسفة في شجار قد تعالت أصواتهم، فتحكم بينهم بما عرفتَ من التوفيق بين رأي الحكيمين.
الخلاصة أنّك فيها وبها تعيش الماضي، فتصطاد ديناصوراً انقرض قبل ملايين السنين، وتعيش الحال فتسمع عن غزو الفضاء، وتعيش المستقبل فترى الأمة الإسلامية أمّة قوية مهابة قد تغيّرت أحوالها، وتستشرف المآل فتعمل لما تقتضيه غايتك، فبادر إلى القراءة والتحق بركبها فنعم الركب هم، يفهمونك إذا أشرت، ويعلّقون أحسن التعليق إذا تحدثت، ويقرأون الخواطر قبل أن تخطر على بال صاحبها، فهم الصفوة وغيرهم زبد أو غثاء.