نبي الإسلام و حرية التعبير.. قراءة سيكولوجية في حرية الاعتقاد.. / احمد سالم ولد عابدين

إن "الكلام" هو أساس أي سعي وراء الحرية.. الحرية نفسها تغدو استعبادا عند فرض الصمت على "الذات" من طرف "الآخر". إن كل عبودية هي بدرجة ما حالة من حالات فقدِ الكلام .. العبودية هي فرض الصمت على الآخر، على حريته في التعبير.
إن منع الناس من "الكلام" هو أحد أهم الاستراتيجيات التي لجأ إليها كفار مكة لمحاربة الدعوة.. 

لقد عمدوا إلى صرف الناس عن الاستماع إلى محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم بل و معاقبة من يثبت انه استمع إليه .. لكنهم لما استمعوا هم أنفسهم للقرآن بدر منهم إجلال عظيم له (و الله إن له لحلاوة..). لقد اتخذ كفار مكة شعارا لهم (لا تسمعوا لهذا القرآن و ألغوا فيه لعلكم تغلبون)، لقد عرفوا أن الفيصل هو الكلمة، و بالتالي رفضوا الدخول في قانون الكلام (و جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم)..
لقد كانت حياة الرسول و مواقفه تطبيقا عمليا متمركزا حول القضية الكبرى التي تحتل أساس الصراع في العالم اليوم، كما احتلته منذ فجر التاريخ.
إنها القضية التي ركزت عليها الرسالة المحمدية التي استغرقت كل حياته.. إنها حرية الكلام: حرية التعبير العقدية .. ذلك أن حرية الكلام هي الوجه الظاهر لحرية التعبير و حرية الاقتناع العقدي التي دعا إليها رسول الله..
العنف هو الوجه الآخر لفرض الصمت، لأن الصمت (بما هو تكميم للأفواه) هو كبت للطاقات الكلامية التي ستنفجر لاحقا على شكل أفعال عنف عندما لا تجد لها مخرجا عبر اللسان .
حرية التعبير لا تعني التعدي على الآخرين (و قولوا للناس حسنا) بمعنى أنها تظل مطلبا مشروعا ما لم تتعدى "الذاتُ" فيها على "الآخر" عقديا أو فكريا (فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة)، هكذا كانت رسالة الإسلام مطبقة في حياة الرسول الأعظم الذي بين أن حرية التعبير هي صمام أمان وحدة المجتمع البشري، حيث يشكل الاعتراف بحق كل فرد في الكلام قانونا كونيا (يمكن تسميته بقانون الكلام) و هو قانون يمكن إبصاره في كل دعوات الرسل.
كل مواقف الرسول كانت تقول: خلوا بين الناس و بين حرية اعتقادهم.. إنه القانون العام لرسالة الإسلام.
انه قانون حرية الكلام، أي حرية التعبير و الاعتقاد.
إنها حرية تداول الكلام بين البشر و اجتهاد كل واحد منهم لإعطاء كلامه المصداقية عن طريق دعم حججه و تفنيد حجج الخصم في جو تعترف من خلاله "الذات" كما "الآخر" بأن مصداقية الكلام تأتي من قانون الكلام هذا، و هو قانون له مبادئه و أسلوبه و أهمها أن لا يتسم الكلام بأي طابع عنيف ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة و الموعظة الحسنة، فقولا له قولا لينا) أو يرافقه أي عدوان أو تجن على الآخر (و جادلهم بالتي هي أحسن).
هذا القانون الدعوي في حرية الكلام ينبني عنه وجود وحدة اجتماعية وثيقة بين أفراد المجموعة الواحدة. إن المجتمع يفرض الاعتراف من خلال هذا القانون بالحق في التنوع الخطابِي، فهذا التنوع هو ما يضمنه قانون الرسالة المحمدية في الأساس ، حيث انه من خلال انتفاء " الكلام " يتفكك الرابط الاجتماعي و تتحول أسس الوحدة البشرية إلى عقبة تعترض تحرر الإنسان.
إن ما تعلن عنه حياة الرسول و مواقفه هو حرية الكلام و حرية نشره، لكن بشرط عدم الإساءة إلى الأخر في معتقده أو في بدنه أو ماله أو عرضه (و ما أرسلناك عليهم حفيظا) دون أن يخشى صاحبه الملاحقة أو التعرض للعنف و الاستعباد( و لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا، الآية )..
حرية التعبير هي إحدى اكبر الأسس التي قامت عليها وحدة الرسالات (أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله)، و مما لا شك فيه أن حق "الكلام" هو احد الأمور التي يسعى البشر غريزيا إليها بوصفه تجسيدا و تأكيدا لباقي الحريات، أليس قمع التعبير هو اكبر تهديد لوحدة البشر ؟! أليست الدكتاتوريات هي اكبر عدو للتطور البشري ؟! أوَ ليست الكلمة هي اكبر سلاح تسعى من خلاله الدكتاتوريات لتثبيت أركانها و تقويض كل تعبير آخر؟! و في المقابل، أليس الكلام هو السلاح الأكبر لأي دعوة تحرر أو ثورة؟! أو ليس الكلام المجسِّد للمعتقد و الفكر هو اكبر رابط للتماسك الاجتماعي؟!
حرية الكلمة هي المظهر الأول لحياة الرسول: إعطاء الناس الحرية في قول لا اله إلا الله أو عدم قولها دون إرغامهم على أي شيء آخر غير الذي تجله قلوبهم و تنطق به أفواههم (فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر).
لقد أمر الله رسوله صلى الله عليه و سلم أن يقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا اله إلا الله، و ذلك على اعتبار اليقين في انه لو أعطيت لهم الحرية لقالوها و لَمَا حدث أي قتال حيث لم يشرع القتال إلا ضد من يقف في وجه حرية التعبير، فالعنف لا يجوز إلا إن كان سبيلا لتأمين حرية الكلام.\
أهل مكة، الذين لم يبرعوا في شيئ مثلما برعوا في فن الكلام الذي أعطوه ابرز مكانة في حياتهم و مجَّدوه و احتفظوا به في أقدس أمكنتهم، عجزوا عن الدخول في قانون "الكلام" مع محمد رسول الله ، امتنعوا من إعطائه حرية الكلام.
هكذا دعا رسول الله لفتح المجال في حرية الكلام (بوصفه تعبيرا عن حرية الفكر و المعتقد) فرفضت السلطة المكية هذه الدعوة. رفضتها لأنها تشكل تعرية للمفاهيم المكية القائمة على الاستعباد، أي على منع الناس من الكلام؛ الإنسان بدون "الكلام" يغدو "عبدًا"، و إذا حصل الإنسان على حرية الكلام التي تؤمن له ـ أولا ً ـ الاعتراف بكرامته كإنسان، حصل على حظ وافرٍ من الحرية حتى و لو كان مستعبَدا على الصعيد المادي الاقتصادي أو على الصعيد الاجتماعي أو النفسي طالما بقي حرا على صعيد العقيدة و الفكر.
لقد تفطن الخليفة معاوية بن أبي سفيان داهية العرب المعروف بذكائه إلى أنّ الشرط الأساسي في السياسة و شؤون الحكم هو إعطاء الحرية للآخر "المعارِض" في الكلام حتى لا ينفجر هذا "الآخر" معترضا على وضعه في مجالات أخرى في وجه الحكام كان بالإمكان بقائها في حيز المسكوت عنه أو المكبوت لو أتيحت له حرية الكلام. لقد أعلن معاوية انه «يسمح بحرية الكلام و لا يضيره في شيئ أن يتكلم (...) المعارضون لسياسته بما قد ينفِّسُ عليهم، فهو (أي معاوية) يجعل دبر أذنه و تحت قدمه ذلك النوع من الكلام الذي يستشفي به قائله»1.
إن من شأن إتاحة الكلام و السماح بحرية التعبير في الفضاء الاجتماعي العام أن يوجِد عددا كبيرا من التعابير المختلفة و المنتمية إلى وجهات نظر متعددة .. منها الغث و منها السمين، هكذا تتوفر منتجات كثيرة من التعابير ، سيسعى الفرد إلى اختيار بعضها و الانجذاب إليه على حساب البعض الأخر ؛ هكذا تقف " الذات " في معرض سوق كلامية.
إن حرية الكلام توفرها "سوق الكلام" التي يعرض فيها الجميع عقائدهم و دعواتهم و يشعر فيها كل واحد بالرابط الانساني يقوى بين البشرية. أما حين تحتجب هذه الحرية فسيشعر الأفراد بضعف الرابط، فنحن كبشر «من دون التعبير و التفكير نكون بصدد الموت الكياني ، و لا يتبقى لنا سوى الحياة البيولوجية»2.
إذن، لا يوجد سوى الكلام أو الموت على رأي عالم النفس الشهير جاك لاكان..( و ما يستوي الأحياء و لا الأموات )
ذلك انه في الحقيقة ، و في ظل عالَم مكتظ بأفراد لديهم معتقدات و رغبات مختلفة و اتجاهات متنافرة ، فإن قانون الوحدة البشرية هو نفسه " قانون الكلام " ( تعالو إلى كلمة سواء بيننا و بينكم ) : حين يلتزم كل واحد بإعطاء الحجة الكلامية قوة اكبر من كل حجة أخرى يكون العالم بخير( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه).
إن حرية التعبير حق طبيعي للبشر ، وهي التي تبني و تجذر التفاعل بين الذوات و تمكّن الوحدة الاجتماعية من الاستمرار من خلال نبذ العنف الذي دائما ما يتأسس و يظهر حين تنتفي إمكانية الكلام.
إن فرض الصمت على البشر يعني النكوص عن "قانون الكلام" الذي هو حاجز بين النظام و الفوضى، بين السلم و العنف. و عندما يفرض الصمت على "الذات" يبدأ العنف بالظهور لسببين:
1 ـ من خلال من يَفرِض هذا الصمت ، بحيث يعلن بمنعه كلام الآخر استباحة «التنكر لإنسانية ] هذا الأخر [ وصولا إلى هدره و قهره و استغلاله ، و حتى إبادته»3، فحرية الكلام بهذا المعنى هي دائما إقرار بالحق في الوجود و «حصانة الآخر و منع قتله أو الاعتداء عليه»4.
2 ـ من خلال الذي يُفرَض عليه الصمت، اذ تبدأ المكبوتات في التراكم دون أن تجد لها مصرفا، و عندما تبلغ هذه المكبوتات درجة لم تعد معها الذات قادرة على الاستمرار في الحياة بهذا الكم من التراكم نتيجة ثقل أعباء تراكمات هذا الكبت ، تبدأ في هذه اللحظة خيوط العنف بالبروز كتصريف و مخرج وحيد لهذه المكبوتات .
و لكن كيف يتغلب بعض الكلام على بعض؟
إن الوجه الآخر لقوة "قانون الكلام" و الذي يجعل هذا الكلام شيئا معترفا بقوته و مصداقيته، هو صدق هذا الكلام نفسه ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا. لا ينبغي أن يدخل الكذب في تجاذب الكلام (و لو صدقوا الله لكان خيرا لهم) لأن الكذب تحريف للحقيقة و لأنه يُنبئ عن نية مبيتة في إحلال العنف إذ ينتفي قانون الكلام بدخول الكذب عليه (و إذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك).
إن منع الكذب إذن يصبح ضروريا من ثلاثة أوجه :
1 ـ لكي تستمر الذوات في الأخذ بقانون الكلام كقانون طبيعي و كوني، قانون منصِف يرضى به الكل، فقانون الكلام هو رابط الروابط البشرية الأخرى، هو الأصل الذي تتفرع منه باقي أسس الوحدة الأخرى.
2ـ لكي ترتاح الذات إلى أنها تستند إلى أرضية ثابتة تنطلق منها كل الذوات الأخرى بالتوافق و الإقرار المسبق : إنها أرضية الصدق .
3 ـ و بالنتيجة ، لكي تطمئن الذات إلى أن الآخر لا يُبَطِّنُ العنف .. لا يبطن الكذب الذي هو دلالة عنفٍ واضحة ، و يمكن الدخول مع صاحبه في عملية تواصل يرتكز على حسن النية المسبق في إقامة وحدة اجتماعية تجمع كل الذوات المتكلمة تحت هذا القانون (قانون الكلام).
و بناء عليه، فإن الاحتكام إلى معيار موحد فيما يتعلق ب"الصادق" و "الكاذب" لن يكون متاحا للبشر و مُرضياً لهم إلا إذا قبلوا جميعا بتحديد معياره من طرف سلطة هي اصدق شيئ و لا يمكن أن يتطرق الزيف إلى أحكامه (و من اصدق من الله حديثا)( و من أحسن من الله حكما).
قوة الله المتعالي أسمى من الكل (تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا).. هي الضامن لصدق "قانون الكلام" المعترف به من طرف الكل بوصفه شرطا تأسيسيا لقيام المجتمع وضمان لمصداقيته.
يكفي لكي تتعرض وحدة الرباط الاجتماعي للتهديد و التفكك أن ينظر إلى هذا المعيار الأسمى بالتشكيك (الكفر) أو رميه بتهمة الانحياز . إنها قوة التشريع الربّاني الذي جاء ليعطي البشر وحدة ثقافية تعلو فوق كل الخصوصيات (الله رب كل شيئ)، تلك الخصوصيات هي السبب الأول في انبعاث العنف دائما عندما تلجأ كل واحدة منها لفرض نفسها على الآخرين (و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقو). (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله و رسوله ليحكم بينهم).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي: محدداته و تجلياته، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ، لبنان ، الطبعة الخامسة اغسطس 2004 ص 237 .
2ـ مصطفى صفوان ، الكلام أو الموت ، ترجمة د. مصطفى حجازي ، المنظمة العربية للترجمة ، بيروت ، لبنان ، الطبعة الأولى مايو 2008 ، ص7
3ـ ـ مصطفى صفوان ، مرجع سابق ص 8 .
4ـ نفس المرجع السابق ص 8

14. سبتمبر 2016 - 9:05

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا