في كثير من الوثائقيات التي إعتنت بالتصوف يتعرض الإعلام العربي و الغربي لموضوع التصوف الإسلامي بنظرة أحادية تركز على التصوف الفلسفي و تغض النظر عن التصوف السلوكي الذي هو الأساس الحقيقي و هو التعبير عن حالة الإحسان .
إن سمات التصوف السلوكي الظاهرة من إسمه تعني في الأصل الزهد
و التقلل من الدنيا و الرغبة في الآخرة و إذا نظرنا إلى حياة أنبياء الله كلهم و خاصة سيدنا عيسى إبن مريم و سيد الأنبياء و المرسلين محمد صلى الله عليه و على آله و سلم نجدهم يتقللون من الدنيا و يحثون على الزهد فيها و الرغبة في الآخرة ثم من بعدهم الصحابة رضوان الله عليهم كانت سمتهم المميزة التقلل من الدنيا و الرغبة في الآخرة ثم ما لبث بعد ذالك أن إنفتح المسلمون على الدنيا و تهاطلت عليهم الكنوز من مشارق الأرض و مغاربها مع الفتوح و لكن الصحابة بقوا على زهدهم و تبعهم في ذالك التابعون و في زمن تابعي التابعين ظهرت العلوم الإسلامية و ظهر الإعتناء بها كعلوم مقننة مثل الفقه و الحديث و ضعف في الناس الإقبال على العبادة و التزكية فظهرت في الكوفة و الإسكندرية و غيرها نزعات زهد فردية تدعوا إلى الزهد في الدنيا و التقلل منها و رياضة النفس بالعبادة و الذكر ثم ما لبثت تلك الدعوات أن أزدادت شعبيتها و أصبحت تتكون من ما كانت تسمى بالخانقاهات و هي التي سميت بعد ذالك زوايا كان لتلك الزوايا تأثير بالغ في الفكر الإسلامي الذي تأثر حينها بموجات التفكير الفلسفي التي كانت دائما في الأعم الأغلب مناهضة لكل ما هو ديني و سماوي وفرت تلك الزوايا مصدرا لنشر التربية الروحية التي يظهر للمطالع في كتاب الله أن أغلبه يركز عليها و يحث عليها فإن آيات التشريع قليلة بالمقارنة مع آيات الوعظ و التذكير و لقد أجمل الإمام القشيري التعريف بالتصوف السلوكي حين قال : «اعلموا أن المسلمين بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يَتَسمَّ أفاضلهم في عصرهم بتسمية علم سوى صحبة الرسول عليه الصلاة والسلام، إذ لا أفضلية فوقها، فقيل لهم "الصحابة"، ثم اختلف الناس وتباينت المراتب، فقيل لخواص الناس ممن لهم شدة عناية بأمر الدين "الزهاد" و"العُبَّاد"، ثم ظهرت البدعة، وحصل التداعي بين الفرق، فكل فريق ادعوا أن فيهم زهادًا، فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله سبحانه وتعالى، الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم "التصوف" .
و قذ كر إبن خلدون فيما نقله محمد صديق الغماري «ويعضد ما ذكره ابن خلدون في تاريخ ظهور اسم التصوف ما ذكره الكِنْدي ـ وكان من أهل القرن الرابع ـ في كتاب "ولاة مصر" في حوادث سنة المائتين: "إنه ظهر بالإسكندرية طائفة يسمَّوْن بالصوفية يأمرون بالمعروف".
بعد الأجيال الأولى للتصوف السلوكي و في عصر الإمام الغزالي إنتقل التصوف نقلة نوعية مع هذا العلم الكبير الذي لم يكن في بداية حياته متصوفا بل إشتغل بالفقه و علم الكلام و الفلسفة و أستقرت سفينته أخيرا على التصوف فسلك مسالكه و خاض أوديته و ألف فيه أكثر من كتاب و لكن موسوعته العلمية إحياء علوم الدين لقيت من القبول لدى عوام المسلمين و خواصهم ما لم يلقاه تأليف و أثر في حياة المجتمع الإسلامي كما أشار إلى ذالك الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه ( الإمام الغزالي بين مادحيه و ناقديه ) وضع الغزالي في كتابه الخطوط العريضة للتصوف السلوكي رابط إياها بالنصوص الشرعية فتبعه في ذالك الشيخ عبد القادر الجيلاني و غيره من أقطاب التصوف كالشاذلي و الرفاعي فكان تصوفهم ملتزما بالشرع بشهادة حتى أكبر مخالفيهم .
قبل تلك الفترة كان هناك نوع آخر من المتصوفة أو مدعي التصوف قوم يظهرون الوجد و الحب و الأشعار و الشطحات بدعوى الحب الإلاهي أبرز أولئك كان الحسين إبن منصور الحلاج .
هذا النوع من التصوف الفلسفي عموما من لدن الحلاج الى السهروردي و إبن عربي يتجاوز في كثير من احيانه حدود النقل و الشرع الى أهواء النفس و متاهاتها فيحاول ان يجعل من الحب سببا و وسيلة إلى التحرر من الشريعة و من الرياضة الصوفية التقليدية التي دأب الجنيد و أئمة القوم عليها . المتصوفة الفلسفيون وقعوا في ما يوهم الحلول و الاتحاد من ما لا يمكن تأويله كما وقع للحلاج و ابن عربي و من المعلوم إجماعا أن القول بالحلول و الإتحاد مخرج من الملة و يظهر لدارس المذهبين أن المنهج الصوفي السلوكي مستنبط أساسا من الوحيين القرآن الكريم و السنة النبوية و سير الصحابة و التابعين و هو منضبط أشد الإنضباط بالشريعة . الحلاج و قصائده التي تعبر عن حالة توحد توهم أن المخلوق يمكن أن يصل إلى مرحلة التوحد مع الخالق و قد حاول بعض المتصوفة القريبين ولو فكريا مع التصوف الإشراقي تبرير ذالك و وصفه بأنه حالة نفسية تعبر عن الفناء في المحبوب بحيث يصعب التفريق بين المحب و المحبوب و هذا كله يندرج تحت ما سماه الإمام الغزالي تلبيس الشيطان للسالك و أهواء النفس التي متى ما تركت للخيالات و المواجيد تجاوزت حدود الشرع و العقل و دخلت في متاهات محاولة تفسير الروح و تعلقها بالله و حقيقتها فالروح التي إكتفى القرآن بوصفها أنها من أمر الله لا يمكن إدارك كنهها و سرها و ليست تلك التفاسير الوحدوية وليدة اللحظة أو من إنتاج التصوف الفلسفي الإسلامي بل كانت موجودة في الديانات المشرقية و ربما تسللت إلى المسلمين من تلك الحضارات الوثنية ..
تعتبر أشهر التفسيرات لوحدة الوجود من نظرة نفسية أنها إحساس فردي بالإندماج مع الكون و هي حالة تشبه النيرفانا في الطقوس الهندوسية تحصل عندما يتجرد الإنسان من الإرتباطات المادية و يعزز جانبه الروحي فتدخل النفس في حالة إسترخاء و إذا تأملنا في هذه الحالة نجد في تفسيرها لدى الإشراقيين الخلط بين ما هو نفسي و وجداني شعوري و كل ذالك بعيد عن سبيل الله و هو من تلبيسات الشيطان .
لم يترك الله الإنسان في عمى فقد قال عز وجل :
( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )
معرفة الله التي يسعى إليها المتصوفة عموما لا تكون إلا عن طريق كتاب الله و سنة رسوله المبينة لحقائق النفس و الكون و كل سلوك أو تفكير مخالف لمنهج الله سيسقط في متاهات النفس و أهوائها و تلبيسات الشيطان .
معرفة الله لا تتم بخيالات الحلاج و أشعاره و لا يمكن أن تستسقى من فصوص الحكم لإبن عربي و لا من فتوحاته المكية معرفة الله تتم بترويض النفس و تربيتها و تزكيتها معرفة الله تتم بالصوم و بالصلاة و بكثرة الذكر و بملازمة السنة هذا ليس مجرد كلام وعظي هذا هو ما أستقر عليه رأي علماء خاضوا بحار الفلسفة و علوم المنطق و بحور العلم هذا المنهج في معرفة الله هو الذي أقره الله الذي خلق الكون و ليس هناك هدى وراء كتاب الله فمن إبتغى الهدى في غيره أضله الله .