تعتبر معارضة أي نظام حقا مشروعا لكل مواطن، ومن حقه كذلك المجاهرة بهذه المعارضة، بل والعمل علنا على إسقاط النظام بالطرق الشرعية الديمقراطية، كالانتخابات مثلا، وفي المقابل يحق لأي مواطن أن يعلن دعمه للنظام، والدفاع عنه بكل الطرق التي يتيحها القانون، ويحق لأي شخص أن يسلك
طريقا ثالثا، عنوانه الحياد، أو عدم التسيس، والعزوف عن دعم أي من المعسكرين.
لكن المفارقة الغريبة هي وجود من يمارسون "النفاق السياسي" إذا جاز القول، أو بعبارة أخرى يمارسون المعارضة بما يشبه الموالاة، أوالموالاة بما يشبه المعارضة، على شاكلة المدح بما يشبه الذم، والذم بما يشبه المدح، وهو جنس بلاغي من المحسنات المعنوية، قد يكون مفيدا، ويضفي جمالية، وأدبية على النص الشعري، إذا لم يكن مــُتـكلفا، لكنه في علم السياسة غير وارد، وغير مفيد، ذلك أن السياسة في النهاية مواقف، والمواقف تصريحات، وأفعال، والتصريحات، والأفعال تخدم أجندة محددة، وتصب في إطار هدف معين، تلك هي السياسة، أو لا تكون.
فمن غير المفهوم، ولا المستساغ أن نجد في موريتانيا زعماء سياسيين، رؤساء أحزاب، وشخصيات وازنة تنضوي رسميا تحت لواء المعارضة، لكن النظام يعول عليها في كل شيء، قبل تعويله على أحزاب الأغلبية، وفي مقابل ذلك نجد شخصيات سياسية مهمة، - حزبية، أو مستقلة- تجاهر بدعم النظام ليل نهار، لكن أفعالها، وأقوالها في كثير من الحالات تناقض تماما سياسة النظام، بل وتعمل هذه الشخصيات كمعول هدم من الداخل، لضرب أغلبية النظام، وزرع بذور الشقاق، والفرقة بين وزرائه، وحزبه، وبث الشائعات المغرضة، وهي مع ذلك تدعي دعم برنامج رئيس الجمهورية، في مفارقة، تعكس سياسة مسك العصى من الوسط، في انتظار لحظة التموقع المناسبة، وكأن هؤلاء يقولون للنظام، نحن ندعمك، ولكن.....
إن مثل هؤلاء في الواقع أشد خطرا على أي نظام من معارضيه، وأبلغ تأثيرا عليه، ذلك أن النظام يصنف معارضيه ك"خصوم" ويتعامل معهم على ذلك الأساس، أما هؤلاء فيصنفون أنفسهم كداعمين، وهم بذلك يتجنبون ردة فعل النظام، ويستظلون بعباءة الأغلبية ليمارسوا هذا النوع من الدعم بما يشبه الهدم.
في كل نظام تظهر مثل هذه الطبقة، التي ترفع شعار النقد، والانتقاد، والقدرة على تبيان مساوئ النظام، رغم كونها جزء منه، نظريا على الأقل، وتسعى هذه الطائفة إلى الاستفادة من أي نظام مقبل، في حالة سقوط النظام الحالي، وتريد أن تترك في رصيدها أنها لم تحرق مراكب العودة، ولم تجعل بيضها في سلة واحدة، وظلت متمسكة بانتقاد النظام من الداخل، وهي بذلك تكون موضوعية، ومنصفة، ولم تعميها المصالح الشخصية عن مفاسد النظام، ولم تمارس الطاعة العمياء للنظام.
هكذا تصور هذه الفئة نفسها، وتلعب لعبتها، ولكن يبقى على رئيس الجمهورية محمد ولد عبد العزيز أن يأخذ حذره من هؤلاء، فضررهم أكبر من نفعهم، وقدرتهم على إلحاق الأذى بنظامه تفوق بأضعاف قدرة المعارضة التقليدية، فالمرحلة السياسية التي يمر بها البلد لا تحتمل مثل هذا الولاء المزدوج، ونشر الغسيل على الملأ، فالأغلبية الصادقة لا تنشر مساوئ نظامها، بل تبينها له في دوائر مغلقة من أجل تصحيحها، بدل التشهير بالنظام، وإحراجه، فالنصيحة في الملإ خيانة، واللوم، أمام الجميع حسد، ولقد أحسن من قال:
لو كان لومك نصحا كنت أقبله @ لكن لومك محمول على الحسد
لقد آن للرئيس محمد ولد عبد العزيز أن يقوم بالتخلص من هؤلاء، وطردهم خارج أسوار الأغلبية، كما على الرئيس أن يتساءل عن وجوه سياسية بارزة كانت تشكل قاطرة دعمه سياسيا، واختفت اليوم، ولاذت بصمت القبور، وكأنها تقول للرئيس: ( اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون) نواب برلمانيون، وزراء، ومسؤولون سابقون، ورجال أعمال، وصحفيون، ووجهاء، تخلوا عمليا عن دعم النظام، فمنهم من لاذ بالصمت، ومنهم من بدأ ممارسة الدعم بما يشبه الهدم، وعلى الرئيس الانتباه لهذه الظاهرة قبل فوات الأوان.