في خضم الحديث عن الحوار المرتقب و حمى التطلع إلى لائحة المشاركين يغيب الشعب جملة و تفصيلا فلا يطفو على السطح إلا مواقف أفراد انغلقت الأسماع و انعقدت الألسن عن ذكر غيرهم يستبشر بحضورهم و يتطير بغيابهم في معترك سياسي يتمحور الصراع فيه حول ذواتهم و رغباتهم الأحادية
في الحكم صفحا في الواقع عن أهمية الحوار و أخلاقياته و شروطه المعرفية التي كان من المفروض أن تدركها و تعمل بمقتضاها كل النخب السياسية و المعرفية. و لكن بعيدا عن ذلك فإنها ما انفكت في حالتها الشاذة هذه تسيء تقدير واقع البلد في كل أبعاد:
· تاريخه المرتبك و ماضيه القهري في بعض حقبه التي سبقت دخول الاستعمار و ظلت تداعياته تراوغ الحداثة و لا تستسلم لها،
· حالته الاجتماعية الموصومة بالتباين في هيكلتها و نظامها التراتبي الذي مازات بعض مظاهره قائمة و تأثيراتها القوية صامدة،
· وضعه الاقتصادي البائس نتيجة غياب التخطيط العلمي و ضعف الكادر المكون و المهتم و المقدر و المعتبر لمقدرات البلد المتنوعة و حجمها،
· وحجر هذه النخب نفسها على التفكير واستنكارها للعلم من خلال بعدها عن ارتياد ميادينه العملية الصارخة بإلحاحية حاجة البلد لها من ناحية، و رفضها نتائج المنطق في تكاسل مكشوف على خلفية النرجسية و الاستعلائية الرعناء المضمخة باعتبارات الماضي المعشعشة داخل الأذهان، و تبلد القرائح و انكسار الهمم دون لإنتاج و الإبداع يضاعفه النأي عن دوائره و مناطق حيويته من ناحية أخرى.
و إذا كانت أهمية الحوار تتجاوز مسألة المعايير الشكلية التي تحكم تبادل الرأي بين الفرقاء إلى أبعاد فكرية و فلسفية أعمق علما بأن الموقف الفكري للمتحاور من الحوار يجب أن يرتبط أساسا ً بموقفه من الذات و الآخر و من موضوع الحوار نفسه، فإن الأحزاب التي تملأ بعددها الكبير كل فضاء البلد المتخم بها لا تمتلك مقومات و دعائم هذا الموقف، كما أنها لا تبدو مدركة مطلقا أن الاختلاف في الرأي هو لب ذلك الحوار و حافزه الأساس و جوهره الثابت و أنه لا يقوم بين المتفقين في الرأي و إنما بين المختلفين فيه حيث أن هدفه الأول و الأخير هو التفاعل و ليس الإزاحة في قضايا هي في الأساس من الأمور ذات الطبيعة الخلافية التي ليس من حق أحد أن يزعم امتلاك الحقيقة المطلقة بشأنها.
فإذا و من منطلق ما تعرفه الساحة من شطط و تنافر و غياب عام للثقة فإنه بات لزاما علي الأحزاب و قياداتها و مكونات المجتمع المدني بكل لون الطيف أن تهتم في بادرة تستجد بـ"ثقافة الحوار" في كل أبعاده و أن تعتمد محتواها من التوجيهات و الارشاد و المناهج مفتاحا أولا و مسعى لا خيار دونه في سبيل تذليل العقابات أمام حصول التوافقات المنصفة و بناء الثقة و الاحترام بين المتحاورين حول كل شأن ذي بال منطلقا أمام "التناوب" على أساس البرامج و بعيدا عن كل الاعتبارات التي تكرس البقاء في حجر الرجعية السياسية و الاحتماء من ضعف خطاب و غياب فلسفة و عجز عن الالتحام بالجماهير و عن تقديم الحلول لمشاكلها و تقدير مطالبها و تطلعاتها.
و إلى حين أن تعي الأحزاب كل الأحزاب و المجتمع المدني بجميع أطيافه أن الحوار ليس "غاية" مجرة بقدر ما هو "وسيلة" نبيلة و مطية ذلولا إلى "غايات":
· التوازن و الاستقرار العليا،
· و نشر ثقافة الديمقراطية مثلى،
· و التناوب و البناء و الاستقرار و العدل و الأمن،
و أنه الحوار الذي لا يمكن أن ينجح مطلقا إلا بمن تشبع بثقافته العالية و تمكن من استيعاب رسالته و عمل بمناهجه و احترم مقوماته و اشتراطاته. كما أنه لا شك أن ممارسات هذه الأحزاب "المراهقة" و المضطرة تارة و المستندة إلى "مفاهيم" ولى زمانها و جرمت خلفياتها تارة أخرى، لا تبشر بقيام حوار يسعف البلد في انتكاسته السياسية الكبرى و ينتشله مما ينجر عنها من بعد عن التنمية و من غبن و تهميش الشرائح الكبرى من الشعب التي يطحنها ظلم قلة فاسدة تريد للوضع أن يبقى على حاله و للعبة السياسية أن تظل حكرا على العاجزين المخمليين و الاستعلائيين في بروجهم العاجية العالية.