تساءل كثير من المهتمين بالشأن السياسي في الأقطار العربية عن سر هذا الحراك الجماهيري الذي هب فجأة (وهو بالمناسبة لم يكن مفاجئا) رافعا سقف المطالب حد الإطاحة بالعديد من الأنظمة التي ارتأت شعوبها أن الوقت أزف لإحداث الثورة عليها، معيدا إلى الواجهة تلك المطالب المشروعة من حرية وعدالة وديمقراطية،
وإن كان لبعض هذه الشعوب ما يبرر ثوراتها نتيجة الظلم والمأساة وسفك المقدرات القومية لها، إلا أن بعض الحراك الثوري فيها أخذ اتجاهات عنيفة شكلت صدمة للطلائع المهتمة بإحداث التغيير الهادئ والسلمي، ما من ريب أن بعض القوى الإسلامية من خلال ماكيناتها الإعلامية ساهمت إلى حد كبير في تجييش مشاعر الكراهية وصبغ الثورات بطابع ديني وأحيانا طائفي ملغية بذلك فكرة الوطن الشامل ومقسمة المواطنين إلى مؤمنين وكفرة أو سنة وشيعة في أحسن الأحوال وهذا بالتأكيد يؤدي إلى متطرفين ليس فقط في صفوف الإسلاميين ولكن في الجانب الآخر الذي يزاد إيمانا بتقلص هامش التفاهم ، مما أثار شكوكا جدية بأن هذه التيارات تُعتبر الديمقراطية وسيلة وليست غاية.
في موريتانيا كانت وضعيتنا مختلفة بعض الشيء فالحراك في الساحة السياسية وصل ذروته قبل انقلاب2005 وتحولت بلادنا إلى مسلسل ديمقراطي شاركت فيه النخب الفاعلة في المشهد السياسي، صحيح أن حجم الرضا عن مسارنا الديمقراطي لا زال يتفاوت حسب التقييم ولكن الجميع متفق على أنه تحسن بالفعل من خلال بعض الإصلاحات التي أفرزتها تجاربنا المتكررة في الحوار بين السلطة والمعارضة ومن المؤكد ضرورة السعي الدءوب من أجل تطوير هذا المسار ومراجعة بعض جوانب القصور فيه، هذا شيء لا غنى عنه للسير في الجادة الصحيحة ، ومتفقون كذلك على أن الإصلاح لا يمكن أن يتم بشكل فردي مع إمكانية فعل السلطة له دون تشاور ولكن الأسلم والأنفع والجالب للمصالح الوطنية الشاملة أن يتم أي إصلاح بتشاور الأطراف الراغبة في الحوار بشكل جدي، من المهم الإشارة إلى أن هذا ما تفطنت إليه النخب الراشدة في تونس، ومن حسنات حركة النهضة قبولها بالحوار من أجل العبور بتونس إلى بر الأمـان، وهو ما حدث بالفعل،
ميزة هذا النظام أنه جاء عبر حوار نتج عن اتفاق دكار بين الفرقاء السياسيين الذين اتفقوا حينها على وضع خريطة المسار الديمقراطي والعملية الانتخابية التي خسرتها المعارضة من شوطها الأول فإذا كان كل اتفاق سيؤدي إلى خسارة عظيمة كتلك الخسارة فإن المعارضة ليس من المنطقي أن تكون من المرحبين إذا سلمنا أن ما حدث حينها هو أقصى ما كانت تتمناه القوى المعارضة من ضمانات، ولنا أن نتصور حجم الضمانات التي أعطيت لها في ذلك الوقت، ربما ميزة هذا النظام كسر عقدة الخوف من الحوار والاتفاق مع الخصوم السياسيين فهو الرابح السياسي في جميع الأحوال لأن المعارضة لم تفشل في الاتفاق وأخذ الضمانات اللازمة للعملية الديمقراطية ولكنها من وجهة نظرنا فشلت في تسويق خطابها رغم أن أقوى ما لديها جناحها الإعلامي، بعد اتفاق دكار صار الرئيس محمد ولد عبد العزيز يعتمد الحــوار مع خصومه السياسيين كسنة وهي سنة حميدة رغم أهوال المشككين، مع أن المعطى السياسي لا يجبره على ذلك إذ الحقيقة السياسية تؤكد أن الرجل لا يزال يحظى بتقدير واحترام غالبية الشعب الموريتاني وهذه حقيقة بديهية يرجع البعض ذلك على قدرة الرئيس على الحسم والإنجاز في ملفات ظلت عصية مثل العلاقات مع إسرائيل ومحاربة الفساد و استعادة موريتانيا لريادتها على الصعيد الإقليمي والدولي، وصناعة مقاربة أمنية نموذجية شكلت حماية لحوزتنا الترابية، يعزز ذلك قرب خطاب الرجل من المواطنين، الأكيد الذي لا ريب فيه هو أن تحسين نظامنا السياسي يمر عبر الحوار كمنهج لا محيد عنه، حتى من الناحية المكيافيلية المحضة ليست المقاطعة خيارا صائبا وهذا ببداهة شديدة لأنه يضعف الحجة ويبعد عن قواعد التأثير والمنابر التي يمكن أن تتيحها المشاركة لتعزيز التواجد فليس هناك فراغ في السياسة وهذا ما شهدناه مؤخرا عندما تخلت بعض الأحزاب عن المشاركة جاء فاعلون جدد واستفادت قوى ما كان لها أن تسفيد لولا مقاطعة هؤلاء، والأكيد أن البعد عن القواعد الشعبية من أهم حصاد المقاطعة، هذا النأي بالنفس الذي يبرره أصحابه باستحالة التفاهم مع هذا النظام القائم ليس ناهض الحجة إذ أن استنطاقا بسيطا لتاريخنا السياسي الحديث يؤكد أن نفس الفاعلين تحاوروا وتفاهموا وشاركوا مع أنظمة سابقة أقرب هي إلى الدكتاتورية منها إلى الإيمان بعملية ديمقراطية رصينة وجادة، يبقى في اللحظات الكبرى ونحن نتحاور لصناعة مستقبلنا أن نخوض ليس فقط في شكل نظامنا السياسي، ولكن في إشكالات كبرى قد تشكل خطرا على سلمنا ووحدتنا وحسم هذه الإشكالات، علينا التطلع لصناعة اقتصاد قوي قادر على الصمود في مناخ دولي وإقليمي متقلب وهذا لا يتأتى إلا بتقوية الجبهة الداخلية وتحصينها، نعتقد أن من المؤشرات الجيدة السير في هذا الاتجاه حتى نهاية الطريق الذي سيمكننا من تعزيز نظامنا الديمقراطي وجعله أكثر متانة، وأنا من الذين ينظرون إلى المستقبل بتفاؤل كبير مثل اتشرشل الذي كان يقول: "إنه متفائل وليس أمامه إلا أن يكون متفائلا"