قراءة في وثيقة الحزب الحاكم / سيدي الطيب ولد المجتبى

جاءت وثيقة الحزب الحاكم المُقدمة للحوار برزمة من المواد القانونية الملغومة التي تتفاوت بين التصريح والتلميح والإشارات الضمنية ضمن تعابير وصياغات مُختلفة من حيث الشكل ومتفقة ومُنسجمة من حيث المضمون ، إذ تُجسد رغبة الحزب في صياغة دستور جديد على مقاس الجنرال الإنقلابي محمد ولد عبد العزيز .

الوثيقة التي قدمها الحزب لطاولة الحوار السياسي - الذي قاطعته قوى المعارضة الأساسية – هي بمثابة الرؤية السياسية للمرحلة القادمة التي ستكرس في ما يبدو مزيداً من الأحادية في الحكم والتسيير، كما تمثل إطلاق عدد من "الرصاصات اللاصديقة" على النعش الديمقراطي المُتعفن .
و تقترح هذه الوثيقة منح صلاحيات مطلقة وشبه ملكية للجنرال ، سأحاول إيجازها ، وكل العبارات الواردة بين الأقواس هي مواد دستورية كما وردت في وثيقة الحزب الحاكم ..
الرصاصة الأولى :
- في الديباجة، نقترح الوثيقة :
( تأسيس القيم الدستورية على القيم الإيمانية التوحيدية : يعلن الشعب الموريتاني "إيمانا منه بالله الواحد الأحد واتكالا عليه" ..)
لست خبيراً بالقيم والمفاهيم الإيمانية لحزب الإتحاد من أجل نهب الجمهورية ولا أستوعب مقاصد ودلالته المختفية وراء عبارات من قبيل : الله ـ الواحد ـ الأحد " ..
لكنني بهذا الصدد أمام فرضيتين :
الفرضية الأولى قد تقول بأن الديباجة قم تمت توطئتها بهذه العبارة لكي يفهم المتلقي بأن الحاكم هو ظل الله في الأرض وله الحق في التشبه بالإله حتى في صفاته الأحدية والتوحيدية مُبررين بذلك شكل النظام السياسي القادم الذي ينبغي أن يكون ـ من وجهة نظرهم ـ أكثر أحادية في كل مؤسساته التنفيذية والتشريعية والقضائية وذلك انسجاما مع شرعيته الدستورية المُستَمَدة من الإله بحكم التغلب بقوة السلاح ..
ولئن قال البعض بتحامل هذه الفرضية فسأعدل عنها إلى الفرضية الثانية التي هي أكثر إنصافا ، والتي تأخذ العبارة على ظاهرها وتحسن الظن بصائغيها ..
لكن حتى ولو كان الأمر كذلك أما يحق لنا القول وانطلاقا من بقية المواد المقترحة والتي تعبر عن أحادية مطلقة في الحكم والسياسة أن الحاكم الذي صيغت من أجله هذه المواد يسعى أو يُرادُ منه منافسة الله في ملكوته وجبروته ..؟!
لنتــابع ..
الرصاصة الثانية :
في مجال التشريع تُمهد الوثيقة بمادة : ( تسمح للرئيس بالتشريع بأوامر لها قوة القانون في حال حل الجمعية الوطنية، كما تعطيه الحق في الاعتراض على تعديلات الجمعية الوطنية لمشاريع القوانين )
وتلك هي الطلقة الأولى في جسد السلطة التشريعية التي من المُفترض أن تكون وتبقى مُستقلة عن السلطة التنفيذية في جميع الأبجديات الديمقراطية حول العالم ..
الرصاصة الثالثة :
وتفاديا لسيناريو رصاصة أطويلة تم اقتراح المادة التالية :
(في حالة الشغور المؤقت لمنصب الرئيس يحل الوزير الأول محله لمدة ستين يوما (60) قابلة للتجديد )
هنا تطلب الوثيقة مدة أربعة أشهر للحسم في زوال المانع المؤدي لشغور المنصب أو إعلان العجز الكلي ..
الرصاصة الرابعة :
التداول السلمي أو الترحيل القسري أو العزل السياسي هي مفاهيم ليست في قاموس كُتاب هذه الوثيقة حيث شيدوا جداراً فولاذياً عازلا دون ذلك بمادة تقول :
( لا يتم عزل الرئيس إلا بأغلبية 4/5 من نواب الجمعية الوطنية، وبعد موافقة ثلثي أعضاء المحكمة الدستورية )
الرصاصة الخامسة :
{لا يُسألُ عمَّا يَفعل وهُم يُسْألُون}
بعبقرية فريدة حوَّل الحزب الحاكم هذه الآية القرآنية المُعبرة عن عظمة الله إلى مادة قانونية مُقترحة في الدستور الجديد لتحمي المُفسدين والمُجرمين ، حيث تقول المادة :
( لا يمكن استدعاء الرئيس أمام أي سلطة قضائية أو إدارية طيلة تأديته لمهامه ..إلخ .. )
الرصاصة السادسة :
بالله عليكم أي جنون سلطوي وبأي حبر كتبت هذه العبارة التي جاءت مُفصِلة ومُكملة ومؤكدة للمادة السابقة :
( لا يكون رئيس الجمهورية مسؤولاً عن الأعمال التي يقوم بها في إطار أدائه لمهامه أو قراراته التي يتخذها بناء على صفته تلك، ولا يمكن أن تكون موضوع متابعة لاحقة من أي نوع )
ففي الوقت الذي نرى فيه بعض دول الجوار تسعى لمساءلة حكامها السابقين الذين أجرموا في حق شعوبها ونهبوا ثرواتها ، نجد الحزب الحاكم هنا يستبق الزمن بوعي أو بغير وعي ليُحصنَ زعيمه في المستقبل خوفاً من خروج الأوضاع عن السيطرة في لحظة جماهيرية يرونها بعيدة أو مستحيلة ونراها قريبة وحتمية ..
الرصاصة السابعة :
لفهم هذه المادة التي تمنع شهادة الرئيس نحتاج لتصفح بعض المتون الفقهية لنسمع كلام الفقهاء في الأحكام المتعلقة بموانع الشهادة ، حيث نجد من بينها مانعين هما :
من يجر إلى نفسه نفعاً ، ومن يدفع عن نفسه ضرراً بتلك الشهادة
ومن أجل أن تظل المواد الدستورية حامية للرئيس ، تجلب له المصالح وتدرأ عنه المفاسد ، فقد اعترفت وثيقة الحزب الحاكم أن الرئيس لا يشهد وقالت بصريح العبارة :
(لا يمكن استدعاء رئيس الجمهورية خلال مدة انتدابه أمام أي محكمة للإدلاء بشهادته، كما لا يمكن أن يكون موضوع مقاضاة أو إجراءات تبليغ أو تحقيق أو متابعة )

الرصاصة الثامنة :
لإحكام القبضة السلطوية على الحظيرة البرلمانية اقترحت وثيقة الحزب الحاكم :
(إلغاء مجلس الشيوخ والاحتفاظ بالجمعية الوطنية كغرفة وحيدة )
وفي هذا الصنف من البرلمانات القبلية والعشائرية من الطبيعي أن يكون صراع القوى الرجعية محموماً من أجل إثبات الولاء المُطلق لـ"الرئيس"

الرصاصة التاسعة :
هنا مربط الفرص وبيت القصيد : ولمزيد من الأحادية في الحكم يجمع الرئيس في هذه المرحلة سلطتين نقيضتين في قبضة واحدة  ،حيث وردت في وثيقة الحزب الحاكم  مادة :
(تسمح للرئيس بأن يُقر الميزانية بشكل أحادي "في حالة عدم تصويت الجمعية الوطنية على مشروع الميزانية قبل 31 ديسمبر، أو إذا صوتت عليها غير متوازنة مما يجعله مُخولا بإقرارها تلقائيا عن طريق أمر قانوني )
وهذه المادة كارثة حقيقية لكن ليست مُفاجئة لأنه تم استباقها بالمادة التي مررنا بها آنفا والتي تسقط أي نوع من المساءلة القضائية في الحاضر والمستقبل عن الرئيس ، مما يمنحه هنا ـ وفق المواد المُقترحة ـ الضوء الأخضر والحصانة الأبدية لابتلاع الميزانية والعبث بها بعيداً عن أعين المُشَرّعين والمُراقبين .

الرصاصة العاشرة :
في ما يتعلق بالجوانب الدستورية ، وتكريساً لمزيد من الأحادية في هذا المجال اقترحت الوثيقة :
( إلغاء المجلس الدستوري، وإنشاء محكمة دستورية ذات اختصاصات واسعة يعين رئيس الجمهورية خمسة (5) أعضاء وتنتخب الجمعية الوطنية الخمسة (5) الآخرين من بين المترشحين الذين يقدمهم مكتب الجمعية الوطنية من طرف أغلبية أعضائها، كما يتم تعيين رئيس المحكمة بمرسوم من بين الأعضاء الذين عينهم رئيس الجمهورية ولرئيس المحكمة الدستورية صوت مرجح في حالة تعادل الأصوات )
بربكم أي محكمة هذه ؟ خمسة أعضاء للرئيس وخمسة من نواب الرئيس ، ورئيس المحكمة يتم تعيينه من طرف الرئيس ..؟
تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ..!

الرصاصة الحادية عشرة :
في الشأن الديني قرر الحزب الحاكم :
(حل المجلس الإسلامي الأعلى ومؤسسة وسيط الجمهورية، وإسناد مهامهما إلى المجلس الأعلى للفتوى والمظالم، ودسترته وتحديد مهامه ، حيث يعين رئيس الجمهورية رئيس وبقية أعضاء المجلس الأعلى للفتوى والمظالم)
لقد قلت أوردتُ في ما سبق أن الدستور المقترح من طرف الحزب الحاكم يتضمن صلاحيات ملكية واسعة ومطلقة، لكن التوصيف الأدق أنه يحمل صلاحيات إلهية أكثر مما هي بشرية أو ملكية ..
وإن كانت هناك بعض المُعوقات أو العراقيل أو الضبابية في طبيعة "الدستور الإلهي" المُقترح فقد أزاحها هذا المجلس الأعلى للفتاوى السلطانية الذي يُرادُ منع قمع المواطنين وانتهاك حرياتهم الفكرية باسم الدين .. وليس غريبا أن يعمل هذا المجلس على إصدار صكوك الغفران للموالين للرئيس وتكفير المناوئين له والمُعارضين .

الرصاصة الثانية عشرة :
خاتمة الرصاصات كان لا بد أن تكون في ما تبقى من هشيم الدستور فجاءت تلك الدعوة صريحة وبكل وقاحة لتقرر :
(استحداث مادة تعطي للرئيس حق تقديم المشروع الذي يتخذ بشأنه مبادرة اقتراح أي تعديل دستوري )
ولعلها مرحلة مُتقدمة من الإستبداد التي لا يميز فيها الحاكم بين النصوص الدستورية والقوانين التشريعية والمراسيم الرئاسية ..
هذه مجرد ملامح من الرؤية الاستبدادية الكارثية لموريتانيا ما بعد "الحزب الواحد" و "الأحزاب المتعددة" إلى واقع جديد ينتهج سياسة العصابة الواحدة والفرد الأوحد والنظام الأحادي في كل تمثلاته وتجلياته .
وتعقيباً على هذه الوثيقة أقول للعصابة الحاكمة ومن يدور في فلكها من مرتزقة وساسة وباعة الضمير والوهم : اكتبوا دستوركم بالخط والحبر الذي تشاؤون ، وضَمِّنوه ما شئتم من مواد تحمي زعيم العصابة وتحتقر الشعب ..
لكن الكلمة الأخيرة حتما ستكون للجماهير .. ولا شيئ سيقف دون تقديمكم للمساءلة والمحاكمة ، لا أرض ولا سماء ،، لا شيئ سيحميكم من غضب الشعب ،، فالله لم يخلق شعوباً تستكين
وفي أذن الجنرال المُترنح أهمس بهذا البيت الشعري القديم مع تصرف طفيف :
تمتع من شميم حِوارِ خبثٍ // فما بعد العشية من حِوارِ
 

8. أكتوبر 2016 - 12:43

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا