لماذا الحوار؟ سؤال يتكرر وتسمعه على الكثير من الألسنة في بلدنا، البعض يسأل بدافع حب الفهم والبعض لكي يصدر أو يؤكد صدق أحكام مسبقة لديه وهناك بعض يشكك ومنهم من ينطلق من موقف رافض للحوار بدون نقاش أو بمنطق إما أنا أو أنت. والحقيقة أن الحوار في حقبتنا الراهنة على مستوى
العالم وفي الدول المتقدمة وغيرها مسار سياسي لا غنى عنه وهو الآلية المثلى التي لا يمكن التشكيك في جدواها لتفعيل التشاور وتفضيل العمل الجماعي على المسارات الانفرادية و هو أيضا منهج لتعميق وترسيخ الديموقراطية وطريق للوصول إلى حالة عامة تختفي فيها الأساليب العنيفة والمغالاة. كما أنه بحد ذاته بديل ناجع للقطيعة والتنافر والتنابز والتطرف والعنف والفرقة وبديل مناسب لمواجهة رفض الواقع والهروب منه إلى أتون الأنانية والفوضى وعدم التفاهم والاستكبار الذي لا يؤدي سوى إلى الجمود والتنافر ومد عمر الصوت الواحد.
إن الحوار السياسي الذي نتحدث عنه يشمل مجالات واسعة من القضايا والنقاط في إطار جدول أعمال واضح وواقعي. وهو يعد وسيلة راقية تليق بالنخب السياسية الوطنية وتحقق الأهداف النبيلة للدولة والمجتمع في تحقيق الرفاهية والتقدم للشعب والمواطنين وضمان مشاركتهم من خلال تمثيل مختلف الفئات والشرائح وحل ما يراه الفرقاء السياسيون من مسائل مطروحة وترتيب أولوياتها ومن ثم التوافق على الأجندة الوطنية للعمل الوطني في المراحل التالية.
بهذه الصورة يعتبر الحوار الوسيلة الحضارية الأولى الفضلى للتفاهم بين البشر، فالمجتمع السياسي كغيره من المجتمعات المالية والدينية والثقافية بحاجة إلى الشورى والتشاور والمفاهمة والاقتراب من الآخر من أجل إدارة وتدبير وتسيير الحياة الاقتصادية والتجارية والاجتماعية والسياسية، وبالحوار وحده يخرج الأفراد والجماعات من حياة العزلة والانغلاق والتزمت والتوحش إلى رحاب التراضي والتفاهم والالتحام بهموم الشعب ومشاكله وعلى امتداد تراب الوطن الذي يسع الجميع. كما أن الحوار أيضا طريقة لتبادل المنافع والمصالح بطريقة سلمية إنسانية، وهو بهذه المعاني تعبير عن العقل وإدراك المصلحة المشتركة والسعي إليها وترجيح للخيارات الأفضل وميل طبيعي إلى البناء.
فكما يقال إن أكثر الأماكن هدوءا و رتابة هي القبور التي لا توجد فيها حركة ولا مكان فيها للتفاعل والتبادل والنقاش ولا يمكن أن يعلو فيها صوت التفاوض والمناقشات وتلاقح الآراء والاتجاهات التي تؤدي في النهاية إلى خروج الصواب كما يعلم الجميع، فكما أن الإنسان بطبعه كائن عاقل يتحاور مع نفسه ويسعى إلى التماهي معها وتصويبها وتهذيبها فمن الجدير به أن يتحاور مع غيره من أفراد المجتمع والشركاء السياسيين وغيرهم من أبناء الوطن الواحد.
ولا شك في أن دورية تنظيم الحوار والاستمرار في نهجه والحرص عليه والمشاركة فيه هي أمور في حد ذاتها مكسب وطني واجتماعي ومؤشر على صحة الدولة والجماعة السياسية سوء كانت حاكمة أم معارضة، فهو في طبيعته ومآلاته يؤدي إلى العمل والبناء وتكاتف الجهود وتقريب وجهات النظر كما أنه يوائم بين المشارب والآراء المتباينة ويذيب الجمود والتصلب على المواقف الذي هو بطبيعته ضد الحركة والديناميكية التي يجب أن تطبع الحياة لكي تكون جديرة بهذا الإسم.
وكما يعلم القارئ الكريم فإن الأيام التشاورية والنقاشات والمفاوضات منهجية ديموقراطية تسفر عن اتخاذ قرارات متفق عليها وغالبا ما تكون مخرجاتها رشيدة وفعالة من أجل تحسين وتفعيل المشاريع السياسية والمجتمعية وتطويرها ومجابهة جوانب النقص فيها وتغليب الجوانب الحسنة بناءا على مناقشة الأفكار من زوايا متعددة ومن أبعاد كثيرة من قبل الأطراف المعنية الجالسة على موائد الحوار.
وقد شهدت بلادنا عبر تاريخها منذ الاستقلال العديد من الحوارات واللقاءات السياسية أسفرت عن تحقيق توافقات تاريخية في مرات عديدة أخرجت البلد في الكثير من الأوقات من عنق زجاجة الاستقطاب الحاد والتشرذم البائس إلى حالة من وضوح الرؤية ووحدتها و أدخلته في مرحلة من التوافق والانسجام والمضي يدا في يد للبناء والتشييد و جنبت الوطن محنا وويلات واختبارات كان عرضة لها وكنا نحن في غنى عنها.
إن المتتبع لمسارات ومنحنيات الحكم وإدارة دفة الشؤون العامة في البلد يدرك ويلاحظ بالتأكيد أن أهم فترات التاريخ السياسي للبلد الحبلى بالإصلاحات والقرارات المهمة والمصيرية هي تلك الفترات التي علت فيها قيم الحوار وازدهرت قيمته وجلس فيها القادة والساسة والقوى الحية الوطنية والنخب المجتمعية النقابية والأهلية وغيرها إلى طاولة المفاوضات وهي فترات اتسمت بتنظيم حوارات وتوحد واندماجات أمام مخاطر داخلية أو خارجية أحيانا كان لها كبير الأثر الإيجابي في حياتنا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
فإذا ما استرجعنا تواريخ مفصلية في تطور بلدنا وفي حياتنا كموريتانيين ستتراءى لنا على سبيل المثال لا الحصر اجتماعات آلاك سنة 1958 وحوارات السبعينات بين الحكومة والمعارضين من الشباب وغيرهم والتوافقات التي أسفرت عنها، ثم بعد ذالك ما تم تنظيمه من لقاءات وطنية سواء كانت متخصصة للتطرق إلى إصلاح أوضاع معينة مثل التعليم أو القضاء أو الثقافة والرياضة...إلخ، وغير ذلك منذ نهاية السبعينات إلى عقد الثمانينات من القرن الماضي، ثم ما جرى من انفتاح وحوارات سياسية بعد ذلك من الحوار السياسي لعامي 2001 و 2005، وما حصل بعدها مشاورات حول الديموقراطية وأيامها في عام 2005 و مفاوضات سياسية في سنة 2009، ثم وفي نفس السياق جاء حوار العام 2011 والحوار الذي يجري التحضير له الآن.