توجيهات سامية! / البشير ولد عبد الرزاق

الذين ثاروا أيام الربيع العربي كان لديهم تسعة وتسعون مطلبا وجيها جعلتهم يقومون بما قاموا به، أعلاها الحصول على حياة كريمة داخل أوطانهم وأدناها إزالة صور الزعيم من المراحيض العمومية.

لقد عاش العرب ردحا طويلا من الزمن بعقلية الصيني القديم، الذي كان حلمه الوحيد هو جر عربة الإمبراطور، لكنهم في مطلع الألفية الثالثة بعد الميلاد، أهدوا العالم جيلا رائعا من "أولاد الحرام"، الذين سرعان ما ضاقوا ذرعا بنظرات الزعيم إليهم وهم يتغوطون وصرخوا في وجهه (ارحل).
في موريتانيا كنا محظوظين للغاية، ليس لأنه لم تحدث عندنا ثورة، بل لأنه ليست لدينا مراحيض عمومية نعلق فيها صور الزعيم.
كنا محظوظين كذلك، لأنه لم يكن علينا أن نصنع تماثيل لزعمائنا كما يفعل أشقاؤنا، فنحن نتربى منذ صغرنا على "فوبيا" الرسم والنحت وتلك الفرضية البائسة التي تقول إن من رسم صورة سيطلب منه يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح!
المرة الوحيدة التي أقمنا فيها نافورة في أحد دوارات العاصمة وزيناها بثلاثة دلافين يخرج منها الماء، لكي نمنح هذه (المدينة الحفرة) شيئا من قسمات البحر النائم على عتباتها، خرج علينا أحد "الشيوخ" وقد استشاط غضبا وقال إن تلك الدلافين والعياذ بالله أصنام يجب تحطيمها!
في موريتانيا اهتدينا منذ زمن طويل إلى طبعتنا الوطنية الخاصة، التي تغنينا عن صور الزعيم وتماثيله والشعارات الملونة التي تمجده وغير ذلك من "الفظاظات"، إنها الخلطة المحلية الشهيرة باسم "التوجيهات السامية".
لا نعرف متى نزلت على رؤوسنا، لكن أصابع الاتهام تشير إلى أنها وصلت داخل حقائب قادمة من غينيا كوناكري، كان رعيلنا الأول مولعا بتلك الدولة لدرجة الهوس وما تزال أوجه الشبه بيننا كثيرة وقائمة حتى يومنا هذا وما زلنا نحن نتساءل حائرين حول أسباب شغف الأستاذ والمحامي بساعي بريد ثرثار ومتهور.
لكي تدرك المفعول السحري ل"التوجيهات السامية"، عليك أن تحضر أخبار المساء على التلفزيون الرسمي، لترى بأم عينك كيف أن هذه التوجيهات حفرت بئرا ارتوازية في أقصى الشمال ثم طارت وخلصت قرية بكاملها في أقصى الشرق من أسراب البعوض، ثم قفزت قفزة عظيمة وشفطت المياه عن مدرسة ابتدائية في أطراف العاصمة ثم حلقت وجلبت مواد الإغاثة لتجمعات سكانية في الجنوب تضررت من السيول الأخيرة ثم حامت وعالجت مرضى حمى الملاريا في الوسط... والأمر الفظيع هو أن كل ذلك حدث وهي مسافرة خارج البلاد!!
لن تعادل حيرتك سوى حيرة الراحل القذافي ذات يوم، عندما استغرب كيف تستطيع مذيعة الجزيرة السابقة ليلى الشايب أن تقدم أخبار المساء في البي بي سي من لندن ثم تقدم نشرة الصباح في اليوم التالي على قناة الجزيرة من الدوحة، تساءل الزعيم يومها " ليه؟ هذا كله لخاطر الفلوس!"
ويكفي أن تتصور أن الزعيم لم يستطع أن يخمن بأن تلك التي كان يسمع صوتها في البي بي سي هي شقيقة ليلى الشايب، لتدرك أن الليبيين كان لديهم ألف سبب وجيه ليكونوا قليلي الأدب مع زعيمهم.
البحث عن الأب الشرعي لنظرية تمجيد الزعيم، سيقودنا إلى ألمانيا النازية ورجل ضعيف البنية نحيف الجسم يدعى جوزيف غوبلز كان وزير دعاية هتلر، هو صاحب المقولة الساقطة "كلما سمعت كلمة مثقف تحسست مسدسي" وكان شعاره دائما "اكذب حتى يصدقك الناس".
تلقفت الأنظمة الشمولية عبر العالم أفكار غوبلز " وزودتها حبتين"، فجعلوا شبح الزعيم يطارد المواطن في كل مكان حتى داخل المراحيض العمومية وطبعوا صوره على كل الأغراض من علب حليب الأطفال إلى ستائر غرف النوم، الشيء الوحيد الذي نجا من هذه الهستيريا الوطنية كان ورق الحمام لأسباب تتعلق بصحة الزعيم.
سيموت غوبلز هذا منتحرا، هو وزوجته وأطفاله الستة، حدث ذلك ذات مساء بارد من مايو 1945 في مدينة برلين المدمرة والمحاصرة من كل الاتجاهات.
في الواقع كان قيام كافة معاونيه المقربين بالانتحار، هي آخر "التوجيهات السامية" للفوهر.

11. أكتوبر 2016 - 13:02

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا