يعيش الموريتانيون اليوم، كل الموريتانيين، مشكلا عميقا على الرغم من الانهمام بالحوار السياسي الراهن. المشكل الذي نعيشه اليوم ونحس بثقله أكثر من أي وقت مضى هو أنه لا أحد من الموريتانيين، كل الموريتانيين، استطاع إلى حد اللحظة مواجهة الواقع على الحال التي هو عليها بعقلانية تفترض
الشعور العميق بالمسؤولية إزاء مشكل الإثنية الذي لاح في الأفق منذ بداية التأسيس وازداد إلحاحا في الفترة المنصرمة والراهنة من عمر الدولة الموريتانية. وتُعلن العودة القوية لهذا المشكل، ونتحفظ على كلمة العودة هنا، عن الإخفاق الجسيم في صهر الإثنيات وتفصيلها على مقاسات تنسجم مع بنيات الدولة الوطنية وتستجيب لمعايير الديمقراطية وحقوق الإنسان، بل وإلى روح الإسلام الذي يعد الدعامة الموحدة للشعب كما ينص على ذلك الدستور الموريتاني. إن الوضع الذي آلت إليه الإثنيات في موريتانيا، والذي أصبح مخيفا ويبعث على القلق، يتطلب بلورة نقد جذري يزيح الأقنعة التي ترسبت على المشكل من دون أن يكون موجها أيديولوجيا أو قائما على منفعة شخصية، وإنما بالأحرى يكون نقدا موضوعيا يقصد إلى الوقوف على الثغرات ويكشف عن الهشاشة التي تلف هذا المشكل الذي ينغص الوحدة المجمّعة للمجتمع الموريتاني. على هذا لا يدعي النقد المرجو وضع حلول كافية للمشكل، لأن ذلك من شأن مختلف الفاعلين والمتدخلين سياسيين كانوا أو اجتماعيين أو جامعيين ... الخ، بل ما يدعيه هذا النقد، في هذه المرحلة، هو، على الأرجح، نقل مشكل الإثنيات إلى مستوى الوعي الصريح.
لا بد من الإشارة في البدء إلى أن أي نظرة، كيفما كانت، إلى المجتمع الموريتاني ملزَمة بالتشبث بوحدة الجماعة وبالإقرار بأنه لا بديل للمجتمع الموريتاني عن السير في طريق التعايش السلمي. غير أن التشبث بوحدة الجماعة لا يعني إطلاقا طمس الخصوصيات ونفي التنوع. ذلك أن المجتمع الموريتاني، كمختلف مجتمعات الأرض مكون من إثنيات عدة، استطاع عبر مسار طويل من المواجهة المسلحة أحيانا والناعمة أحيانا أخرى أن يتجاوز مراحل تلك المواجهة سواء بعوامل داخلية من قبيل الإكراه بالقوة البدنية أو بالحيل العقلية أو بعوامل خارجية كالإمبريالية الحديثة (المستعمر الفرنسي. بالطبع إن الإثنيات الموجودة اليوم في هذا الإقليم من الأرض، في شمال غرب إفريقيا الواصل بين شمال القارة الإفريقية وجنوبها، هي أبناء وحفدة الإثنيات التي كانت في مواجهة بعضها البعض بالأمس البعيد. على ذلك يعتقد مختلف الأفراد والجماعات المنتمية إلى المجتمع الموريتاني أنهم يتحملون كامل المسؤولية عن ذلك الإرث الوبيل، بل إن بعض الأفراد والجماعات يعتقد أن عليه استعادته بصفته الحاضنة لهويته وخصوصيته. ولكن من الملاحظ أن هذا الإرث الوبيل مطوق بالتمييز العنصري والتراتبية المتحجرة والاحتقار الاجتماعي ...الخ. لذلك يرى فيه أفراد وجماعات أخرى حاضنة للإقصاء والعنصرية المقيتة. والسؤال الذي كان ينبغي أن يصاغ منذ فجر تأسيس موريتانيا ككيان سياسي ذا حكم مركزي هو: كيف لنا أن نحتفظ بإرثنا وتراثنا بشكل يجعله موحدا لنا؟ وكيف لنا أن نوظفه من دون أن يكون آلية تكريس للإقصاء والاحتقار الاجتماعي وظلم بعضنا للبعض الآخر ومن دون أن يكون مدعاة لأن يجرح بعضنا البعض الآخر؟
لا سبيل إلى الإجابة على هذا السؤال أو على الأقل لا مسلك إلى التفكير فيه إلا إذا تم وضع مشكل الإثنية والهوية على أرضيتهما الصحيحة، حيث إنه لا جدوى من الاستمرار في الالتفاف والدوران حول المشكل من دون الولوج الصريح إليه. وبالنظر إلى ذلك يبدو أن العائق الأول يتمثل في الطريقة التي يطرح بها المشكل في الغالب. ذلك أنه دائما ما يطرح بشكل جزئي وينظر إليه من زاوية تجزيئية؛ فالسياسي يعتقد أن الحل الملائم هو تعيين مزيد من الأطر ووكلاء الدولة من أبناء الشرائح المقصية التي عانت وتعاني التهميش تاريخيا. والاقتصادي يحسب أنه يكفي إنشاء مشاريع تنموية وإدماج أبناء الشرائح الضعيفة في الحياة الاقتصادية النشطة وتحسين ظروف عيشها. والفقيه يظن أن السبيل إلى الحل فقط في تقديم أبناء الشرائح الهشة لإمامة المصلين واعتمادهم كفقهاء ومحدثين. والسوسيولوجي يرى أن الحل النموذجي هو قران وتزويج أبناء مختلف الشرائح فيما بينها وجعل المهر في متناول أبناء الشرائح المهمشة. والحقوقي يخال أن المسألة هي في عتق من يرسفون في قيود العبودية والتحرر من التراتبية الاجتماعية وإشاعة ثقافة حقوق الإنسان. والجامعي يزعم أنه تجب المساواة بين أبناء الشرائح في التدريس والبحث وتشجيع أبناء الشرائح الضعيفة على نبذ الأمية وتحرير عقولها من الميثيات والخرافات ...الخ. وبقطع النظر عما إن كانت الحلول التجزيئية السابقة تشكل قناعة لدى كل الفاعلين والمتدخلين، وبقطع النظر عما إن كان تم الذهاب بها إلى أرض الواقع أو لم يتم الذهاب بها إلى حيز التطبيق، فإنها مع ذلك تبقى حلولا تجزيئية. صحيح أنه كان يجب على الموريتانيين، كل الموريتانيين، تبني الطروحات التجزيئية المشار إليها على الأقل. مع أن الحل لا يمكن أن يكون على نحو تجزيئي؛ فليس في ما يراه السياسي أو الاقتصادي أو الفقيه أو السوسيولوجي أو الحقوقي أو الجامعي، وإنما هو في رؤية كل منهم على نحو موحد.
آن لنا أن نعترف أن مجتمعنا يعيش هذه الآونة ردة كبرى في الوقت الذي يتربص به خطر مواجهات اجتماعية عنيفة. تتمثل الردة في الرجعية والنزعة الارتكاسية التي تلحب طريق العودة إلى الإرث الوبيل لحبا، وذلك من أجل التمترس وراء التمثلات الاجتماعية المتوارثة بعدما فقدت بعض الشرائح العديد من الامتيازات. ويتمثل خطر المواجهات الاجتماعية العنيفة في تنامي الشعارات التفريقية والملاسنات المطبوعة بالعنف بعدما تأكد لبعض الشرائح صعوبة الخروج من التمثلات الاجتماعية المتوارثة. ومن البين أنه لا الردة ولا خطر المواجهات الاجتماعية العنيفة تصب في مصلحة أي موريتاني ناهيك عن المصلحة المشتركة للموريتانيين الذين حكمت عليهم الجغرافيا والتاريخ والمصير المشترك والثقافة انتماءً موحدا لا يمكن بأي حال من الأحوال الإعراض عنه أو الهروب منه. وليس من المعقول أن يغض الموريتانيون أبصارهم عن مصالحهم العليا التي يمليها انتماءهم الموحد مهما تعددت إثنياتهم وتلونت خصوصياتهم. صحيح أن عدم أخذ النخب الموريتانية مسألة الإثنية على محمل الجد والتعامل معها بشكل انفعالي تغلب عليه روح الفكاهة من جهة والمرحلية من جهة أخرى ساهم إلى حد كبير في ترك الحبل على الغارب لمروجي الشعارات التفريقية وإن كان هؤلاء ـ مروجو الشعارات التفريقية ـ لا يقصدون عن وعي الدفع بالعجلة في الاتجاه الخاطئ. ولكن بالمقابل فإنه صحيح أيضا أن ضعف التكوين العلمي للسواد الأعظم من الموريتانيين وهشاشة أوضاع عيشهم ساهمت في ترسخ التعلق العاطفي المرضي بالتمثلات الاجتماعية المتوارثة التي لا تخدم مصلحة التعايش السلمي أو في اصطلام وانبتات العديد منهم من جذوره التاريخية على مستوى التمثل الذهني على الأقل.
حكمت الجغرافيا على موريتانيا أقسى أحكامها من جهة صعوبة المناخ وصعوبة التضاريس. وحكم التاريخ عليها حكما لا يقل قساوة من حيث تلونه بالصدام والمواجهة. وحكمت الثقافة عليها بالتنوع والاختلاف، وعلى الرغم من ذلك فإن موريتانيا تجاوزت المراحل الأكثر صعوبة في مسيرة خروجها إلى الوجود وانتزاع الاعتراف بها ككيان مستقل له سيادته الوطنية وخصوصية شعبه، ونظام حكم مركزي. وفي تقديري أن الموريتانيين أذكياء لدرجة أنه لا يمكنهم أن يفوتوا فرصة التحولات الحاسمة التي يشهدونها حاليا في سبيل بلورة خطاب موحِّد كان على الأجهزة السياسية الحاكمة والمسيرة للبلد أن تدفع به قدما من أجل صياغته وإعطائه طابعا وطنيا شاملا تُكافح فيه القناعات السلبية الضارة وتُحاصر فيه العنصرية والتمييز والاحتقار الاجتماعي، وتراعى فيه معايير المساواة والإدماج والاعتراف المتبادل.