ينعقد الحوار عادة لحلحلة قضايا إشكالية بات من اللازم أن يوجد لها حلّ، أو على الأقل للبحث عن أرضية مشتركة يمكن أن تلتقي عليها الأطراف ذات المواقف والرؤى المتضاربة كخطوة أولى ومهمّة للبحث عن الحلول الناجعة لتلك القضايا والإشكاليات.
والناظر في الحوار الدائر الآن في قصر المؤتمرات يدرك أنّ غياب أقطاب وازنة من المعارضة يحسب لها حسابها في الساحة السياسية الوطنية، بل ورئاسة مؤسّسة المعارضة ذاتها، مع كشكول معتبر من النقابات والمنظمات والمستقلّين لا بدّ أن يترك إشارات استفهام كبيرة وخطوط حمراء عريضة توضع تحت طبيعة وغاية ومشروعية وشرعية حوار من هذا القبيل.
لا يخفى أن جهدا جهيدا تبذله السلطة في هذه الآونة لمحاباة أحزاب قليلة جدا من "المعارضة" رضيت بالمشاركة، ولتلميع صورة كثير من الأحزاب الكرتونية والشخصيات المغمورة والانتهازيين الذين وجدوا فرصتهم للظهور للعلن ربّما لأوّل مرة، كلّ ذلك لسدّ الفراغ وتسويغ فكرة "الشمولية" الزائفة التي اختارها المنظّمون شعارا لحوارهم الغريب، بل ـ وهو الأهم ـ بهدف أن يطّلعوا بدور "المحلّل" لفصول وفقرات هذه المسرحية هزيلة الإخراج التي هم بصدد تمريرها، لكنّ العقل المتّزن والفكر الواعي سيبقيان قادرين على التمييز بين السمّ والعسل، بين الجدّ والهزل.
والغريب في هذا الحوار الذي حضرته الموالاة عن بكرة أبيها مع بعض المعارضة "الناصحة" وكثير من النخبة المثقّفة والأساتذة الجامعيين والصحفيين والانتهازيين والمتملّقين والمتفرّجين وحتّى المهرّجين أن الغائب الأبرز عنه ليس المعارضة "الناطحة" وإنّما موريتانيا بمشاكلها المعقّدة والمزمنة من تعليم يحتضر وصحّة بائسة وبطالة مزمنة وانتشار للجريمة وأسعار جنونية وسحق يومي للمواطن ودعوات إثنية وتجزيئية واختلاس للمال العام وتكريس للقرابة وتغوّل للزبونية والقبلية والرشوة.
ومن المؤكّد أنّ هذه ليست هي القضايا التي خطفت الأضواء في الحوار رغم محوريتها، كلاّ ولا ترسيخ دولة القانون أو تأكيد مبدأ المواطنة والتبادل السلمي على السلطة أو إشراك المعارضة في رسم حاضر ومستقبل البلاد أو التقسيم العادل للثروة أو حلّ المشاكل الاجتماعية العالقة.
لقد بات من الواضح الآن ـ وقد كان واضحا من قبلُ عند من حباه الله فهما وبصيرة ـ أن لهذا الحوار أهدافا وغايات أخرى غير تلك المعلن عنها صراحة في خارطة طريقه، فبعد قصة العلم والنشيد التي هي أشبه ما تكون بقميص عثمان أو كبش الفداء زال المستور وانطلقت حملة متزامنة من الحزب الحاكم ونوابه وقوى عديدة من الموالاة والناطق الرسمي باسم الحكومة منادية بضرورة السماح للرئيس بمأمورية ثالثة، وذلك هو بيت القصيد في الحوار برمّته، ولأجله تمّ التمديد له مرّتين وقد تأتي الثالثة والرابعة إلى أن يُعتَمد، ويقيني جازم أنّ ما لم يحقّقه حاكم لشعبه خلال مأموريتين متواليتين من النهضة والعدالة والديمقراطية، من المستحيل أن يحقّقه في الثالثة، مثلما هو جازم أيضا من أنّ هذه ليست هي الأهداف والأولويات التي يتحرّك من أجلها المتحاورون الآن بقدر ما أن تبقى موريتانيا شاة بفيفاء أو كنزا لأيتام أغنياء بات مهدورا.
أعتقد أنّه لو كان الحكم الآن لغير تحالف السلطة والعسكر لتحرّكت كتائب البرلمان ومن ورائها كتائب الجيش انتصارا للجمهورية والقانون والدستور هذه المرة، وهي التي تحرّكت من قبل ليس خدمة لهذه المهام النبيلة وإنّما لوأد الديمقراطية في مهدها!
لا أدعو للانقلابات ولا أتمنّاها لأنني من الذين يؤمنون أنها هي أصل البلايا والرزايا التي يترنّح داخلها هذا الوطن المسكين، ولكنّها تذكرة للانقلابيين الذين اختلقوا الذرائع والحجج الواهية إبان آخر انقلاب لاغتيال الحلم الديمقراطي ومصادرة إرادة الشعب بحجة الدفاع عن دولة المؤسسات، وها هم اليوم يتصدّرون عملية دوْس القانون وإهانة الدستور وخدمة الأهواء والمطامح الشخصية.
ما أدعو إليه وأتمنّاه مخلصا في ذلك هو أن يَعدِل هؤلاء الناشطون جميعا في هذه الحوارات والكرنفالات المشبوهة والغريبة عن اغتيال أحلامنا ومصادرة إرادتنا للمرة العاشرة أو أكثر، وأن يتركوا سفينة البلاد هذه المرة تبحر رويدا حتى ترسو على برّ الأمان، ربّانها التبادل السلمي على السلطة ووقودها الديمقراطية التعدّدية، فحين لا يُسمَح للرئيس بمأمورية ثالثة ولا لمسعود بتغيير سنّ الترشّح للرئاسة فهذا لا يعني نهاية المطاف ولا أنّ عقارب الساعة في هذا البلد قد توقّفت.
ما أدعو إليه وأتمنّاه حقا هو أنّ يهبّ كلّ من يستطيع أن يضطلع بدور، وعبر جميع الوسائل السلمية الممكنة حتّى يتمّ فرض هيبة القانون واحترام قدسية الدستور وخصوصا في مواده المحصّنة في وجه كلّ الطامعين والطامحين إلى أن تظل موريتانيا دائما مزرعة لا تتسع إلا لجيوبهم الخاصة ولا مكان فيها إلا لنزواتهم الشخصية.