إن ما يدور هذه الأيام في بلادنا العزيزة والغالية موريتانيا، حول جعجعة المأمورية الثالثة، يذكر كثيرا بالمرض الاجتماعي والسائد في الإنسانية والمعروف بالتحرش الجنسي، الذي يدفع أحيانا، أصحابه، ضعاف العقول وغير الأخلاقيين الذين لا يستطيعون التغلب علي شهواتهم الجنونية من ارتكاب الجريمة.
لقد قال ولد عبد العزيز مرارا وتكرارا، انه لن يترشح لمأمورية ثالثة على رأس البلاد. ومع ذلك، نعلم جليا انه لا يمكن للرئيس الموريتاني أن يقول شيء و يقوم بعكسه في نفس الوقت، حيث انه هو من يكلف حكومته بإبراز انجازاته وشرح مشروعه المجتمعي بدون توقف.
وزراء نراهم اليوم يتحدثون باسم النظام الذي يتربع عليه بدون منازع مدعاة إلي القلق، يقومون من حين إلي آخر بحملات رسمية أو خفية، مباشرة أو من خلال بعض القوي، بحملات تحسيسية وتعبيئية من اجل تهيأت الرأي العام والدولي لمشروع المأمورية الثالثة، غير مبالين بالضجيج الكبير التي يحدث ذلك الطموح السياسي غير المشروع خاصة في صفوف المعارضة الراديكالية.
لا شك أن ذلك، لا يعدو كونه تكتيكا سياسيا أو تحرشا يسعي النظام جاهدا في ممارسته وتغذيته، خاصة انه لا يشكو من قلة الدعم والحماس اللذين يرافقانه حيثما تم التطرق إلي تلك الإشكالية سواء لدي الأحزاب السياسية (الأغلبية، الاتحاد من اجل الجمهورية..) أو المجتمع المدني.
تحرش سياسي لا يكاد يتواري حتى يشرق من جديد، حيث انه أصبح يوم بعض يوم، لا يثير الغضب العارم والعام في الأوساط الوطنية والدولية في حالات كهذه، باستثناء قادة المنتدى المعارض.
فالكل ينظر متفرجا علي تنفيذ أمر قضي بليل و كتب له أن يستمر عدة سنين قبل الظرف الحاسم (2019)، لضمان نضجه ولفرضه تدريجيا بحيث تشتت رويدا رويدا القوي المناوئة لهدا التوجه.
ويبدو اليوم وكأنه لا مفر من وقوع الجريمة، التي أصبحت كالحجر عندما يرمي يصعب تغيير مساره. هذا، إذا ما علمنا التقبل والتفاعل الضمنيين مع هذا المشروع السياسي المشئوم لشعب لا حول له ولا قوة و الذي لا يفتقرأيضا إلي الدعم القوي من لدي جيش متسيس و مؤيدون متحمسون يسعون لتحقيق مآرب نفعية خاصة دون المبالاة بالعواقب الوخيمة التي تهدد الأمة من جراء تلك التصرفات العمياء.
ويبدو انه ثمة تفاعل كبير مع مشروع المأمورية الثالثة حسب الوتيرة السياسية الحالية، استعدادا بالاحتفال الكبير المرتقب بعد رفع هذا التحدي السياسي الغادر من طرف الموريتانيين في الأشهر المقبلة، بعد مواصلة الضغط السياسي والإداري والأمني لفرض استفتاء لشعب لم يصوت يوما عن قناعة وإنما لمصالح قبلية، جهوية إو شخصية و حتي انه لو صوت صوابا، حول اقتراعه إلي الكفة الحاكمة.
أعتقد في تلك الإرادة للرئيس التي تكمن في بذل الغالي والنفيس و مهما كلف الثمن، والتمسك بنفس الصمود و العزيمة والشجاعة التي تميز بها ولد عبد العزيز في تجاوز المعضلات وقهر الأمور منذ 2003 حتي اليوم كالانقلابات، سقوط المروحية في شرق البلاد (الذي دفع شخصية إلي تأليف كتاب حول الموضوع، فرسان التغيير، الربيع العربي، البطاقة البيضاء، الخ) و بعد ذلك إلي إضفاء الشرعية على انقلابه ضد رئيس الدولة السابق المنتخب ديمقراطيا سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، منتصرا علي الرفض المحلي والدولي، بعد فترة من الحراك الدبلوماسي والأمني.
لا شك أن الرجل الذي نجي بأعجوبة من حادث رصاصة اصويلة الصديقة، لم يكن ريئسا عاديا، يتحري الإسعاف والنجدة أو يخاف من قتله أو إزاحته عن السلطة، عندما إصابته الطلقة النارية.
أخد ولد عبد العزيز أمره بنفسه ووضع يده علي الجرح الذي ينزف وقال لمرافقه أسرع بالسيارة إلي المستشفي العسكري بنواكشوط، رافضا الاستسلام و المساعدة الأولية من زميله و مؤمنا بأنه، بقدر الله و مشيئة، قد يخرج قويا من هذا الحادث ما دامت إرادته متينة و متمسكا بأمره قبل كل شيء.
أظن انه لو كان حدث الأمر مع رئيس آخر، لكن النهاية، لفضل البقاء هنالك حتى تأتي الإسعافات مما يعرضه إلي الموت لبعد المكان (40 كلم) و صعوبة وصولها في وقت وجيز لإنقاذ رجل دماء تتدفق كماء الحنفية.
وحتى انه، رغم تأثره الشديد، تحدث ولد عبد العزيز ألي الأمة وطمأنها علي صحته قبل أن يخضع للتخدير و من ثم لعملية لاستخراج الرصاصة، مسترسلا قدر ما أمكن حول الحاثة الشهيرة.
نام لساعات واستيقظ، ومعنوياته مرتفعة، قبل أن يسافر إلي فرنسا للعلاج، دون أن يظهر له غياب إداري كرئيس دولة. الأمور كانت تسير علي ما يرام وكأن ولد عبد العزيز لم يغادر أبدا القصر.
سافر الرئيس الي أقطار عديدة من العالم، كالصين والولايات المتحدة وجنوب أفريقيا، وحل بشمال مالي والحرب تدق طبولها، متوصلا إلي وقف لإطلاق النار دون أن ينتابه قلق أو شك بشأن قدرة نظامه وحرسه الجمهوري علي رعاية القصر
كما فاجأ المراقبين الوطنيين والدوليين برئاسة الاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية في فترة وجيزة من وصوله إلي سدة الحكم، في الظروف المتفاقمة، المحلية و الدولية التي يشهدها الكل وبعد ذلك، الرعاية المشتركة لمناسبات دولية بجانب أقوى رجال العالم (أوباما، هولاند، شيا بينغ ...).
لا يوجد لدي ولد عبد العزيز "جينة" الخوف في الدم. بل لديه الشجاعة لإذلال من يحتقرون او يستخفون إو يهددون نظامه كفرنسا والمغرب ومالي والسنغال على سبيل المثال، لا للحصر.
فالرجل محظوظ جدا، من خلال نشر الجيش في الأمم المتحدة، في إطار بعثات حفظ السلام حتى مكن القوات من نيل التهاني و التوشيحات الأممية المتتالية، مع الفوائد المادية والمهنية لتلك المهام.
كان محظوظا جدا، علي الصعيد السياسي، حيث انه استطاع أن يحجب علي المستويين الوطني والدولي حالات الإقصاء والاستعباد والتعذيب وكذلك المضايقات التي يقوم بها حكمه، عن علم أو غير علم، اتجاه خصومه السياسيين و حركتي ايرا و25 فبراير
المأمورية الثالثة تعتبر من جهة أخري سلاحا ثمينا لولد عبد العزيز ولحكومته التي تتقن استغلالها، ليس فقط من اجل البقاء في الحكم وإنما أيضا كسلاح سياسي لإحراج المعارضين الذين يقاومون بكل الوسائل ذلك التحرش لتفادي الجريمة السياسية المحدقة.
وأخيرا، تصبح الديمقراطية كلمة فارغة ومؤامرة عسكرية، في فضاء يتسم بكل هذه المعطيات غير المألوفة في الديمقراطيات، يتم ترميمها حسب الوقت والمكان لتنسجم مع المخطط السياسي المقرر أصلا.
حقا، لن يستمر الظلم والإقصاء والتهميش إلي الأبد، ولكن الدول كموريتانيا، التي يسود فيها الإهمال و الضمير النفعي، ليس في الحكام وحدهم، بل تجاوزهم حتي أصبح كغمة للعيش، يصعب عليها التعافي من هدا الوباء السياسي دون دفع الثمن وقد يكون لا قدر الله بسفك الدماء، ما دامت كل مجموعة تنظر إلي السلطة من الزاوية الضيقة للعشيرة و القبيلة الولاية وتحي الانتماءات الإقليمية (نحن عرب، نحن أفارقة، ) و دوليا (سنيين، شيعة، علمانيين )، رافضة رفضا مطلقا التبعية لكيان الدولة.