جولتى مع الرئيس..!! / حبيب الله ولد أحمد

حبيب الله ولد أحمدرأيت فيما لا يرى النائم (ولا المستيقظ) أننى خرجت فى جولة مع رئيس الجمهورية داخل العاصمة، فى الواقع كانت جولة رائعة... فى البداية صافحنى رئيس الجمهورية... بعضكم قد لا يدرك معنى أن أتشرف بمصافحة سيادة الرئيس... يد الرئيس (التى فوق أيدينا) ليست يدا عادية..

إنها لينة تكاد تقطر دما وعطرا و"خفة" (معظم رؤساء العالم يشتهرون بـ"خفة اليد" بشكل لافت خذوا (إن شئتم) رؤساء "أبخازيا" و"الهندوراس" و"المالديف" مثالاعلى ذلك). عندما صافحنى صاحب الفخامة (وأخى العزيز) علق عطر رهيب بجسدى كله، وظهرت علي فورا علامات "طفح جلدي" مع سيلان أنفي، وعطاس واحتقان فى الأنف، عرفت دون تفكير أن الأمر يتعلق بـ"حساسية" مفرطة من عطور صاحب الفخامة (بعض رؤساء العالم لا يتركون "ريحة" إلا للعطور أو الروائح الثانوية غير بالغة الأهمية)، وملمس يده، لم يسبق لى "التعبق" بمثل هذا العطر الحالم، ولا ملامسة مثل هذه اليد العليا... فأنا أصافح يوميا عشرات العامة والأصدقاء فى المستشفيات، ومقرات الصحف، وعلى "قوارع" الطرق، لكنها المرة الأولى التى أجد فيها "ريح" الرئيس (لولا أن تفندونى). فى السيارة تخيلت أننى فى "يخت" ملكي (قرأت عن "اليخوت" الملكية فى روايات عربية وعالمية قديمة وحديثة لم أرها إلا فى الأفلام والصور ولا أحلم برؤيتها حتى لا أسيئ الأدب مع الله بطلب ما لا طمع فيه).. التكييف والتظليل، والأناقة والحراسة، وطيبات الرزق، والمقاعد المخملية... لا أستطيع أن أنقل لكم شعورى - كمواطن من العامة- وأنا أجالس رئيس الجمهورية فى سيارته، وفى مقعدين خلفيين محفوفين بالنعومة والراحة والأبهة...!!. كنا أربعة وخامسنا "فخامتنا".. أنا والسائق ورجلان فى زي لاهو بالعسكري ولاهو بالمدني (لعله أن يكون "زي الهوى")... لكل منهما نظارات سوداوية معتمة، ويد تتصل بشيء ما فى الجيب السفلي، ويد أخرى تستقر تماما على الحافة العلوية لمقعد صاحب الفخامة.. اعتقدت جازما -وبناء على معلوماتى المتواضعة- أنهما من ذلك النوع الذى نسميه "الحرس الشخصي"... معلوماتى تؤكد أنهما نفس الحارسين الذين كانا يقفان -بنفس الزي والهيئة والنظارات والملامح والقسمات- خلف كل الرؤساء السابقين، وحدسي يخمن بأنهما سيقفان خلف كل الرؤساء اللاحقين...!!. غمرتنى السعادة الحقة، فأنا محاط بحراسة مشددة لأول مرة (وربما لآخر مرة) فى حياتى، لو تمتعت بها فى سالف أيامى لما حمل اللصوص أثاث منزلنا، ثم عادوا ليحملوا أوراقنا الثبوتية، وكل ما خف حمله (لم يجدوا عندنا ما غلا ثمنه وإلا لحملوه) قبل أن يتحول اقتحام منزلنا إلى هوايتهم المفضلة، بل إننى ظننت أن "المدرسة العليا لتكوين اللصوص العاملين" جعلت من منزلنا ميدان تطبيق "مستشفى جامعي".. فكل لص جديد يتسور حائطنا عدة مرات، من الاكتتاب والتحضير البدني والنفسي، وصولا إلى التخرج وإعداد المذكرة النهائية، ومرورا بأعمال السنة والاختبارات النصفية...!!. فى الواقع ورغم رؤيتى لبنايات ألفتها فى العاصمة، إلا أننى بقيت حائرا... فإذاكانت هذه فعلا بنايات العاصمة، فأين الطرق المقعرة؟... وأين القذارة والفوضوية؟. تذكرت أن الجهات الحكومية لا بد أن تكون قد أعدت العدة (بشكل مفاجئ) لهذه الجولة الرئاسية "المفاجئة"... طبعا عندنا لا يقوم الرئيس عادة إلا بأمور "مفاجئة"، فالزيارات، والانقلابات، والإقالات، والتحالفات، والتوشيحات، والخطابات، والتعيينات، والحوارات، والصفقات كلها "مفاجئة"، وربما أن الدستور ينص -ولكن ليس بصراحة- على أنه (من حق الرئيس وحده القيام بالأشياء "المفاجئة" ولا يمكن للبرلمان "مفاجأته" بالمساءلة عن ذلك كما أن الحكومة لايمكن أن "تتفاجأ" بما يقوم به الرئيس حتى ولو تعلق الأمر بإقالتها وتنتفى صفة "المفاجئة" عن أعمال الرئيس فى إحدى حالات العجزأو فقدان الذاكرة أو أن يرد إلى أرذل العمر أوحدوث انقلاب "مفاجئ"). الطرق جميلة ممهدة... الأمر بسيط يحضرون صهاريج وجرارات شحن، ويرشون الرمل (معه خرسانة "غير مسلحة" من الفضلات الحيوانية وربما الآدمية) لترقيع حفر الشارع لمدة 1 إلى 10 دقائق -حسب مدة مرور السيارة الرئاسية-("يتعيش" الرمل المبلل ويتحول إلى حفرة من "حفر النار" بمجرد مرور موكب الرئيس) وتتكفل مؤسسات الدولة بتنظيف الشريط الطرقي الذى يمر به الرئيس، وفى حالة تعذر التنظيف يشكل مناضلوا الحزب الحاكم، وأحزاب المعارضة المتحاورة مع الأغلبية، وأحزاب الموالاة، "دروعا بشرية" بين الرئيس والجنبات القذرة للشوارع وأرصفتها، فلايتركون "ريحة" لأي شيء يمكن أن ينغص على صاحب الفخامة. ولأن الجولة "مفاجئة" فإن عشرات من عمال الدولة ومناضلى "حزب الحاكم" ونساء وشيوخ وأطفال "الأغلبية"، وموظفى الاذاعة والوكالة والتلفزة كانوا "يفاجئوننا" بحضورهم، كانو يقتربون من السيارة، ويلوحون للرئيس الذى لم يبتسم لهم ليس لأنه غير مرح أصلا (ربما كان مرحا فى طفولته) ولكن (كما تخيلت) لأنه يعرف أنهم يتصنعون التعلق به كما تصنعوا التعلق بمن كان قبله من الرؤساء وبمن سيأتى بعده منهم...!!. كنت جالسا بجانب الرئيس مشدوها مترددا فى التلويح مثله للمستقبلين (من أنا حتى أتجرأ على ذلك؟ وماقيمة يدى مقابل قيمة يد صاحب الفخامة التى تخرج من السيارة المعتمة "بيضاء من غير سوء"؟)، لم يسألنى الرئيس عن أي شيء، ولم أفاتحه فى أي موضوع... كنت بجانبه مثل صورة ورقية على المقعد، بملامح خشبية "أبنوسية"... لا أتذكر تماما هل كنت خائفا مرتعشا، ولا أعرف هل تصببت عرقا؟ ..لا أعرف هل كنت وقتها حزينا أم سعيدا... الرئيس لم يتحدث معى... نعم كلانا محرج، أنا أعرفه لأنه علي أن أعرفه باعتباره رئيسا لبلادى... هو لا يعرفنى، ومعرفتى لا تزيد من ملكه ولاتنقص منه "مقدار دانق"... تذكرت "فجأة" بيتا سائرا ربما فيه تعبير عن وضعيتنا المرتبكة: (وما كان غض الطرف منا سجية *** ولكننا فى موقف غر"ي"بان) اعتقدت فى لحظة ما أنه "اختلس" شيئا ما، تخيلته نظرة غامضة نهشت خريطة جسمي، ثم ضحك داخليا (على الصامت الهزاز) فبعض الرؤساء لا يضحكون أبدا (منهم رئيس مدغشقر فملامحه لا توحى بأنه سيضحك فى القريب العاجل)، وأحيانا يخيل لك أن "الماسورة" الفاصلة بين مناطق الحزن والفرح فى أدمغة بعضهم متآكلة، لذلك يفرحون لحظات الحزن، ويحزنون لحظات الفرح (رئيس الموزامبيق مثال حي على ذلك وقيل لى إن جائزة سنوية رصدت لأي مواطن موزمبيقي يستطيع تصويره ضاحكا مستبشرا أوضاحكا فقط وحتى الآن لم يحصل عليها أحد فعطلت مثل "جائزة شنقيط" المعروفة عندنا هنا فى موريتانيا).. لا أستطيع تحديد مشاعر رئيس يجد نفسه "فجأة" جالسا فى نفس السيارة مع مواطن من أقل رعاياه شأنا... وبعض الرؤساء – كما هو موضح أعلاه- لا يمكن تحديد نوعية مشاعرهم، لذلك فملامحهم لا توحي بأي شيء.. مرة تخيلت الرئيس سعيدا بوجودى معه... ومرات تخيلت أنه لم يشعر بجلوسي معه، كان يسرح ببصره بعيدا ملوحا بيديه (الشريفتين) لبعض الذين "فاجئوه" بالولاء على جنبات الطريق. توقفت السيارة الرئاسية فى باحة أحد مستشفيات العاصمة..."فوجئت" بأن الجميع كان على علم بجولتنا "المفاجئة"، وزير الصحة الذى تمت إعارته مؤخرا للحزب الحاكم (سموه -إن شئتم- الجمهورية من أجل الاتحاد أو الحكومة من أجل الاتحاد) ليقوم بالتعبئة والتحسيس والشرح لأهداف الحزب وانجازاته (بعد أن تأكد للرئيس أن "الحصباء" تمت السيطرة عليها والبلاد تتوفر على 7 اسكانيرات 4 منها متعطلة ولم يعد لدى الوزير ما يقوم به فى وزارة حققت كل أهدافها دفعة واحدة)، الإدارة وأعوانها، والسلطات الإدارية المدنية والعسكرية والصحافة.. كلهم هنا، بعضهم كان يغالب "عبوسة" عينين(رائبتين) تنهزمان نعاسا أمام شمس الضحى (ربما باتوا ليلتهم الماضية هنا فى انتظار الرئيس "المفاجئ")...!!. بدا لنا المشفى نظيفا بلا روائح، وبلاقطط، وبلا مرضى أيضا... (فى بعض الدول الاسكندنافية يذهب الكثير من المرضى عادة الى "الجنة " "فجأة" بمجرد قدوم الرئيس الى عنابرهم فى زيارة "مفاجئة" طلبا للهدوء حتى لا يزعجوه أو يزعجهم)...!!. أغلقت الأبواب على "المحتضرين" وأصحاب "الحشرجات" والأمراض الغامضة والوضعيات الصعبة.. وأوصدت الغرف القذرة وعولجت روائحها بسرعة... لا يمكن للرئيس أن يرى مريضا فى وضعية صعبة، أويشم رائحة قذرة، لذلك يتحول المستشفى -غداة زيارته- إلى فندق خمس نجوم (قد تكون نجوم "قائلة")، فيتم طلاء الجدران، وتجدد المصابيح، وتشذب الأشجار، ويستدعى الاداريون أقاربهم وأصدقاءهم لتعويض النقص الحاصل بسبب تغيب عشرات العمال الدائمين (أو الدائنين لا فرق) و"غير الدائمين"، وتستبدل "ملاءات" أسرة المرضى، وتملأ رفوف صيدليات المستشفى بعلب الأدوية الفارغة، حتى لا يكتشف الرئيس أنه لا دواء فى المستشفى (قيل لى إن رئيسا موريتانيا سابقا كان يعرف أن الناس يخدعونه عندما يقولون له مثلا إن لوالده ديوان شعرمخطوط أو أن بقرة محلية تنتج مائة لتر من الحليب فى الثانية الواحدة، أو أن مزارع الأرز بين العاصمة وبوتيلميت تحقق الاكتفاء الذاتي للبلاد أو أن دكتورا جامعيا تخرج للتو من قسم لمحو الأمية ولذلك كان يعاملهم بطريقة "إن الكريم إذا خادعته انخدعا")، ويلبس المرضى فاخر الثياب، ويتصنعون الرقص، ويتناولون حتى الأطعمة التى لا تناسب وضعهم الصحي... أما الممرضون والاطباء والقابلات وعمال الدعم (بعضهم ينطقها هكذا: "عمال العدم" أو "عمال الدمع") فتمنحهم الإدارة (على سبيل الإعارة) سترات بيضاء وحمراء نظيفة، وتحرم عليهم الحديث إلا عن الظروف الحسنة، والانجازات العملاقة، والقفزة النوعية، وجهاز "اسكانير"...!!. بشكل "مفاجئ" انتهت الجولة "المفاجئة" للرئيس، غير أننى منعت "فجأة" -وبالقوة- من العودة مع الرئيس... فـ"هذيان الحمى" لم يتكفل بعودتى مع الرئيس.. لكنه على أية حال أتاح لى نصف جولة "مفاجئ" وممتع مع صاحب الفخامة...!!.

4. ديسمبر 2011 - 23:36

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا