لا شك أن معظم الموريتانيين ينظرون اليوم بإعجاب كبير للكثير من مواقف وسياسات الرئيس محمد ولد عبد العزيز، وخاصة منها ذات العلاقة بقضايا مصيرية مثل قضية رد الاعتبار للدبلوماسية الموريتانية بعد القطع الجريء وغير المسبوق للعلاقات المشينة مع الكيان الصهيوني وتوطيد دعائم الهوية الوطنية
من خلال برنامج الوثائق المؤمنة ورفع الظلم أخيرا عن آخر سجناء اغوانتامو، المهندس محمد ولد الصلاحي بعد أن تورطت الدولة الموريتانية خلال عهد سابق في تسليمه إلى السلطات الامريكية في سابقة يندر حصولها في البلدان التي تحترم نفسها .
ولكن كل هذه الانجازات على أهميتها كانت تنتظر تتويجها البارحة بموقفه من القضية التي شغلت الناس منذ توليه زمام الامور في أغشت 2008 ، ألا وهي قضية التداول السلمي على السلطة المكرسة بمقتضى نص دستوري يتسم بجمود مطلق، والواقع أن هذا التقدير و الإعجاب بموقف رئيس الجمهورية من هذه القضية الشائكة يجد مبرراته في الأهمية الخاصة التي يمثلها مبدأ التداول السلمي على السلطة في أي نظام ديمقراطي ، وخصوصا في عالم عربي وإفريقي ظل يمثل استثناء من مبدأ دوران السلطة ، وبالتالي من تحقيق الديمقراطية ، حتى أن ثمة من الكتاب من تساءل ما إذا كان "النظام الديمقراطي يعني محض التداول السلمي على السلطة" في إشارة واضحة إلى محورية هذا المبدأ بالنسبة لأي نظام ديمقراطي سليم وإلى الغياب المطلق له في كافة بلدان الوطن العربي .
إن هذا الموقف الحاسم للرئيس محمد ولد عبد العزيز من تكريس احترامه لمبدأ التداول السلمي على السلطة - بعد أن طرحت مسألته بإلحاح كبير من البعض خلال الأسابيع الثلاثة الماضية التي تميزت بإجراء حوار وطني هام شارك فيه طيف عريض من الاحزاب السياسية والنقابات وهيئات المجتمع المدني والشخصيات المستقلة ، ليختتم البارحة بكلمة تاريخية من الرئيس أكد فيها على احترامه لهذا المبدأ- قد يمثل بحق منعرجا مهما في مسار ديمقراطي وطني ظل ناقصا ومترددا منذ بدايته مع مطلع تسعينيات القرن الماضي .
بيد أن هذه الخطوة وإن كانت تعكس تشبث الرئيس محمد ولد عبد العزيز بمبدإ كان هو نفسه من أهم الداعمين لدسترته خلال الإصلاحات الدستورية التي أعقبت الانقلاب العسكري بزعامته على الرئيس ولد الطايع، إلا أن ضمانات إعمال هذا المبدأ واحترامه ظلت و ربما لا تزال تحتاج إلى أكثر من مجرد النص عليه في الوثيقة الدستورية ، وذلك ليس لأن الإقرار الدستوري له قد لا يعبر بالضرورة عن تسليم به في بنيات العقل السياسي والثقافي وحتى الاجتماعي للنخبة السياسية الوطنية الحالية ، وإنما لأن القبول به وتفعيله كذلك، ربما يتطلب مستوى معينا من إنضاج الظروف السياسية والاجتماعية لا يخفى أننا لم نصل إليه بعد .
ولعل الغياب المطلق لتطبيق هذا المبدأ في مستويات أقل داخل كيانات المجتمع المدني كالأحزاب السياسية والجمعيات والهيئات النقابية، بل وحتى في النوادي الرياضية ، ناهيك عن المستويات الاجتماعية ما قبل المدنية ، يشي بصعوبات جمة ثقافية واجتماعية في تطبيقه ويؤكد في نفس الوقت على أن الوقوف في وجه إعمال مبدأ تداول السلطة ، قد لا يرتبط في الواقع بإرادة الحكام ، قدر ارتباطه بثقافة متأصلة في وجدان مجتمعاتنا ومتجذرة في عرفها الاجتماعي .
غير أنه ومهما يكن من تأثير مؤكد للمعطيات السابقة على سلاسة تطبيق مبدأ التداول السلمي على السلطة في بلادنا أو من تحديات محتملة في وجه هذا التطبيق ، فإن موقف رئيس الجمهورية البارحة في وجه محاولات الاخلال بهذا المبدأ ، هو قطع كامل مع تلك الثقافة السياسية والاجتماعية القاضية بديمومة السلط، وتشبث واضح بالضمانات الدستورية الواردة في المادتين 26 و28 حوله ، وهو في نفس الوقت احترام لقسم دستوري كان قد قطعه الرئيس على نفسه ، كما أنه عن حق يمثل تتويجا لمسار من الانجازات الوطنية التي قام بها هذا الرجل لا يماري فيها إلا مكابر .