صراع المكر والحكمة / عبد الفتاح ولد اعبيدنا

altقد يطلق المكر علي تدبير الظالم للإيقاع أكثر وبعمق بفريسته وخصمه, كما يطلق علي تدبير الله لرد كيد ومخطط الظالمين والمعتدين. لكن الحكمة لا يحسن إطلاقها إلا في مقام التدبير والكيد والمكر الحسن, لأنها في حكم التنزيل خير محض (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا), ويقول أيضا جل شأنه (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين).

فالحكمة بهذا المعني التفصيلي أنسب لصف المؤمنين والساعين للتغيير الايجابي المسؤول, من مكر ضيق, مقصده الأساسي إبقاء الحال على حاله, والحفاظ على الكرسي ومنافعه المعنوية والمادية, ولوعلى حساب المصلحة العامة وإن بدت الشعارات الرنانة رائجة في جانب (الأغلبية), حسب ما تدعي أبواق النظام, بأسلوب يحتاج إلي الدليل, لأن الصمت وإن أوله البعض بالقبول والرضا, قد يكون في زماننا بسب الخوف على مصالح ضيقة موهومة. هذا إن صح أن الأغلبية الحقيقية مع الحاكم المتغلب الراهن لسبب أو لأخر. وقد قصدت من وراء هذا القول علي سبيل الصراحة والنصح (للسائرين والمحتجين والمعتصمين بسلم) التنبيه إلى أهلية الخصم لقدر فائق من الحيل والمكر والكيد, عسى أن يسلم من هذه التحركات كلها, وينأى بنفسه ونظامه العسكري الانقلابي عن دائرة الخطأ, ولو بعد صراع مرير بينه والطامعين في التغيير. والمتأمل لتجارب الشعوب الأخرى في سياق ما اصطلح عليه بـ(الربيع العربي) سيقرأ المفهوم نفسه بوضوح, قد يساعد على توقع ما يدبره عزيز للسلامة من العاصفة القادمة المرتقبة الراجحة. فأحد زعماء المعارضة قال لي, في لقاء خاص غير صالح للنشر, لقد كان الراحل المختار ولد داداه رحمه الله عاجزا عن التخيل, ويقصد محاوري بعبارته الفرنسية (l’imagination) القدرة على التوقع والمقارنة بين الايجابيات والسلبيات. فالقائد في نظري هذا, يحتاج إلى هذا المؤهل العقلي, حيث يكون قادرا فعلا على توقع قدر كبير من نتائج ما هو مقدم عليه. بل العزيمة لا تكفي أحيانا, دون رؤية ثاقبة للمستقبل المنظور. ويقال فلان ينظر بنور الله, وليس المقصود محض الحاضر المشهود, فهو أكثر انكشافا, وإنما المقصود بعض المستقبل وبعض الغيب المستور المحجوب, إلا عن عاقل حاذق خارق, وملهم مزود - ربانيا وروحيا – بحاسة سادسة أو سابعة, يذعن له المجهول – ولو نسبيا – وتقفز إلي ساحة المستقبل المنظور القادم, فتتفادى بذلك بعض المخاطر والهفوات الكبيرة, بمشيئة الله وعونه. العرافة وغيرها من طرق التصنت غير المشروع, لأبواب السماء وغيبها المستور المحجوب ممنوعة علي رأي إسلامي, يشكل اجتماعا مفحما. والدليل مبين مبسوط في محله من كتب الاختصاص المفصلة لتلك الفتوى والآراء الإسلامية الناصعة لكن لا مانع عندهم, من الاستخارة والتعامل الدافع المفضي للحذر الايجابي المطلوب. ففي الأثر (ما خاب من استخار, وما ندم من استشار). وقال تعالي: (يأيها الذين آمنوا خذوا حذركم). وفي هذا الباب أطرقت أياما وسويعات ولحظات متفرقة, فهالني تدبير الحاكم العسكري الانقلابي المتغلب عزيز, حتى خلته توفيقا, وما هو بتوفيق, وخلته أحيانا استدراجا, وذلك يقع مع الكافر في أكثر الأحيان, وما هو بكافر, وإن وقع الاستدراج مع المسلم الفاسق الظالم, لأن الله يمهل ولا يهمل, فغلب علي الظن أنه كذلك, والهن أعلم. إن عزيز الاختبار الرباني النازل من السماء إلي الأرض علي رأي البعض, يوم الأربعاء 3 أغسطس 2005, المتعزز نفوذا أيضا, يوم أربعاء أخر, الموافق لـ6 أغسطس 2008, لم يأت اعتباطا, فما غلب معاوية حارسه, حتى أثخن في الجراح رغم ما يدعي له أنصاره من إيجابيات وإنجازات. لقد دعا معاوية وزيره السابق للتعليم أبو بكر ولد أحمد, إلى إلغاء مادة التربية الإسلامية من التعليم, وبعد طلب لقائه من قبل الوزير المذكور, وكثير من النقاش الصعب الهادئ بين الرجلين, كان الاتفاق على إلغاء الثلثين من وقتها, وإبقاء الثلث فحسب. كان وقتها مناخ خصب لدعاوي مكافحة الإرهاب, وتجفيف المنابع, بمحاربة الإسلام الدعوي الوسطي, بشتى منابره. فأغلق المعهد السعودي, وأغلقت السجون والمخافر على عشرات الدعاة والوعاظ و(الإسلاميين المؤدلجين) والعلماء من أصحاب الجرأة والرأي الأخر. لكن الانتقام الرباني جاء سريعا وحاسما, ومفجعا للمشفقين علي جهل معاوية, رغم عدم سوء النية أحيانا. فانقلب الحارس (الأمين) على ولي نعمته, لا لإيثار دين الله, وإنما لإيثأر نفسه وزوجه من بعض سقطات حرم الحاكم المخلوع. حسب روايات شخصية عزيزية, لكثيرين التقي بهم, على حدة. (كيف ما تكونوا يول عليكم) كما ورد في تراثنا, الزاخر بالمواعظ والحكم العميقة. فعندما سكتنا, أو سكت بعضنا على الأصح, انقلبت السفينة تقريبا, وماجت وهاجت في أمواج عاتية, مخيفة للعقلاء وأصحاب الألباب, وإلى اليوم. ولكن الذين خرجوا من السجون بعد ظل معاوية, خرجوا اليوم على اختلاف أرائهم, وخصوصا الإسلاميين ضد عزيز, الذي غر بعضهم يوما بأنه تحرك لخلاصهم من أخطاء وبطش الرئيس السابق معاوية. يا سبحان الله إنه محض الغموض والتخبط وقصور الرؤية واضطراب مناخ العقل والفهم حتى عند الخيرين من ذوي السبق النضالي المشرف. كلهم من ملة واحدة, ومؤسسة واحدة, وصيغة واحدة في الحكم العضوض العسكري المستند للقوة والإجبار. فلماذا لا نقطع الحبل مع الماضي إن أمكن بجميع صنوفه وممارساته ومدارسه, أم أن الإقصاء وتصفية الحسابات هو ما يهدد الآن ثورة شعب الكنانة. فخاف العسكر من المدنيين الثائرين فاحتالوا عليهم, في أخر اللحظات, بإدخال بعض رموز النظام الآفل السابق. أم أن المسرح ينبغي أن يفتح للجميع إلا لمن منعته المحاكم, بحجة مفحمة, ورفضه الشعب المقترع ضمنيا, في وقت لاحق مرتقب, عبر التصويت لنزلاء السجون السابقين, من الدعاة والوطنيين والثوريين, الذين عابهم إعلام الحكام وأجهزتهم الأمنية التابعة المقهورة. ومن عبر مثل هذه الأجواء خاض صاحبنا اللجاجة حتى وصل إلي الحكم, رغم بعده الظاهري عن التفاصيل, وانشغاله التكتيكي بجانب الحراسة والأمن الرئاسي أيام معاوية خصوصا, وسيد واعل. مثل هذا جدير بالحذر الكثير. ومن يعرف بعض حيله, لا يستغرب إن انهزمت جهود منسقيه المعارضة في وجه أساليبه الجامعة بين الترغيب النسبي والترهيب والقمع النسبي والدهاء، والمكر الواسع المتنوع المحير (خريج مدرسة ثعلب الصحراء حسب وصف البعض, خصوصا في جانب المكر والتحايل علي الخصوم). وأول الواقعين المحتملين في الفخ العزيزي لا قدر الله, سيكون زعيم المعارضة أحمد ولد داداه كالمعتاد وإسلامي تواصل, كما حصل في السابق, حين حصل مع جميل وأنصاره بعد انتخابات 2009 المزورة المذهلة, أيام المعارضة الناصحة, خروجا من وصف المعارضة الناطحة, التي تمتاز قرونها بشيء من المرونة والليونة, قابل للذوبان من جديد في الوعاء العزيزي بطرق أو بآخري, أو بحجة تغليب النصح علي النطح. لا تأمنوا مكر عزيز معشر رفاق الدرب في وقت سابق, حتى لا يوقع بكم من خلال صفوفكم وإثارة الخلاف بينكم لإذهاب قوتكم وريحكم, إن صدق الإطلاق على وضعكم الحالي. رغم أن التكتل والتواصل قد يكونا أكثر الرابحين من الحقبة القادمة وليس على الترتيب, بسبب رياح إقليمية وعربية (الربيع العربي) قد تزيد الإسلاميين علي حساب سائر اللاعبين الآخرين. سبحان الله إنها حظوظ السياسة ومناخها وبورصتها, بشرط الثبات الصعب البعيد المنال. (وربطنا علي قلوبهم) آمين. الخصم يملك أدوات كثيرة, إن أحسن اللعب بها كالمعتاد (والله يمهل ولا يهمل). فحين يأتي أمر الله, يذهب السمع والبصر وتثير جميع الحيل والخدع السمعية والبصرية وغيرها. وسيكون شرف الثبات وثمرته, كبير الأثر الإيجابي العميق علي الوطن, إن أصر جنود التغيير- المجهولين والمعلومين علي التضحية وقد يتطلب الأمر وقتا أطول – شهورا أو سنوات – حسب الحظ وأجواء الطقس السياسي, المحلي والإقليمي والدولي. والأوراق كلها لها دورها, حتى السنوسي, وتسارع الأحداث في مشروع (دولة ازواد). والجيش وجهاز الأمن – إن لم تكسبه المعارضة المقاطعة للحوار – إلي صفها, لن يتحقق التغيير السلمي سريعا, وقد يكون مكلفا إن وقع متأخرا, كلفة قد تصل –لا قدر الله – حد الفشل أو الخطر العميق على الوحدة الوطنية الهشة. فلبس كل تغيير مطلوب مأمون المخاطر والعواقب. والأجدر بنا جميعا في وجه آخر الابتعاد عن المطالبة بتصفية الحسابات مع النظام المستهدف وأزلامه وحاشيته ورموزه. وليفهم الجميع المقصد والإشارة قبل فوات الأوان. فمحاكمة مبارك وأجوائها القاسية – رغم مبرراتها الأخلاقية والقانونية من تصرفاته وأولاده وحاشيته – هي السبب في ترشح عمر سليمان, وإمكانية التزوير المقصود, للانتخابات الرئاسية المنتظرة, وما قد يترتب عليها من إجهاض مباشر للثورة المصرية التاريخية, والربيع العربي برمته, لا قدر الله. فلا تسرفوا في المطالبة بمحاكمة عزيز, وأعوانه المدنيين والعسكريين, فجيش موريتانيا الانقلابي, في بعض أجنحته وشرائحه, ليس الجيش التونسي. وموريتانيا ليست تونس, وإنما هي (موريتانيا) التي تعرفون جميعكم, ولا وطن لكم سواها. فلا تمارسوا سياسة الرد المحروقة, فتلك إن أحرقت بعض المراحل, محرقة في المقابل للوطن كله. ولكل حادث حديث, وكما يقال في المثل الحساني (كل علب واكلام) أي لكل مقام مقال. فعزيز ليس إلا حاكما عسكريا مثل غيره, وإن علا خيره أو انخفض شره على اختلاف رأي الفقراء الوطنيين. وليخرج غير فاتن ولا مفتون, وما سوى ذلك لا يخدم الوطن, ولو سلم بجلده, فالله حسيبه, والشعب في ما بعد المرحلة الانتقالية المتوقعة, فيما بعد رحيله عن الحكم المغتصب, له أن يحاكمه بإنصاف وعدل أو يتركه لأسباب ما, تخص القضاء وحده. وعدم المحاسبة أو الحديث عنها, قد لا تعني إتاحة الفرصة للمزيد من الإفساد والاستبداد, لكنها (حدي بيتنا), وإن أغضبت بسطاء الفهم, خلافا لأصحاب التحليل والتوقع الحازم المفعم بالدهاء والحذر الشديد. إن حديث ولد داداه عن الدعوة لمحاكمة ولد عبد العزيز لا معني له, علي رأي أحد أعيان المنسقية في أحاديث خصوصية. فالأمر يقتضي التروي المصاحب للدارسة العميقة النابهة, والاستفادة القصوى من التجارب المحلية, في التعامل مع عزيز نفسه, وغيره من حكام المنطقة في هذه الحقبة (الربيعية) على وجه الخصوص. لقد كان التونسيون أحكم من الجميع, وأحسن حظا في آن واحد, مدنيوهم وعسكريوهم. فلا يفتكم التمعن في الدرس التونسي, وربيعه الأقل خسائر من التجارب الأخرى. إنه سياق طويل, من الصراع بين الحكمة والمكر, وربما نفصله في حلقة أخري. وقبل الختام تأملوا درس (تكند) فلم يصبر على قطع الطريق ساعات قليلة, فكيف يصبر علي تهديد حكمه بالزوال, أم أنه درس عزيزي في الحيلة والقدرة علي الإيهام بالحسم فيما يتعلق بمصالح الناس الاستعجالية, ومبطن برسالة قمع لأهل العاصمة وغيرهم إن أصروا علي الاحتجاج رغم سلميته. فقطع الطريق في نظر البعض يعتبر مساسا بمصالح الجميع, من جميع أنواع المسافرين, من ذوى الحاجات المختلفة, أصحاء وأصحاب علل على السواء, وغايات أخرى لا تحتمل التأخير. وعموما المسافر مسافر والمقيم مقيم. (اللهم إني أشكوا إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس) (اللهم سلم سلم...). وسلمنا من حيله ومكره, وأخرجنا من هذه الظلمة والحقبة الحرجة, غير فاتنين ولا مفتونين. وخلاصة القول إن (تعزيزنا وصهرنا) عادته وحيلته في أغلب الحالات على خلاف محيطه العائلي, إن يتمسكن قبل أن يتمكن, حتى إذا تمكن أنفذ خطته التي يريد, ورغم ما لحقكم ولحقنا من مكره, فنحن أعلم به, فأكرمونا وأهله الطيبون المسالمون بالسماح بمخرج له غير مهين, والله المعين وهو عليم بالقصد الخالص لوجهه الكريم. فلا هو صهر الشهيد صدام حسين رحمه الله, الذي قتله احتياطا حتى لا تنتشر عدوى الغدر والخيانة, ولا نحن مقتنعين بثقافة الحزم والعقاب الزائد (الصدامي) على حساب الرحمة والقيم التقليدية الأصيلة النبيلة. ونحن الجامعة ترجع إلى من تعرفون ممن أقحموا في السياسة مرات ومرات, لأسباب كثيرة متعددة, موضوعية أحيانا ووثيقة الصلة بتاريخ الموريتانيين جميعا. فلا تتعجلوا معشر بعض القراء في احتساب الأمر بعيدا عن أخلاقيات المهنة, وإنما هو الإطار المحلي الموريتاني واكراهاته الضاغطة دون ذكر الأسماء أو المجموعات القبلية أو العشائرية, بشكل صريح, وفي التلميح كفاية عن التصريح. والرأي عند كثير منهم أنه صاحبهم وابنهم بالتبني السياسي ولو بوقت سابق وبالمصاهرة المقدسة قبل أن يستقله عدد محدود من أهله الأصليين أصحاب الدم والعرق. أقول استطرادا "الرأي أن يرحل" بصورة سلمية بعيدة فعلا عن التشفي وتصفية الحسابات الضيقة, وإن لزم حسابه فليكن بعد المرحلة الانتقالية كلها بحذافيرها, ولا يقتصر عليه الأمر وحده, بل يشمل سائر الملفات والرؤساء السابقين الأحياء وأهم أعوانهم, ومرد ذالك أقولها تكرارا ومرارا إلى قضاء عادل محلي, إن تم الاطمئنان على حياده وإنصافه, والأولى التسامح وفتح صفحة جديدة بيضاء ناصعة متفائلة, دون إفراط أو تفريط, مشرقة بالثقة في الله, والأمل في مستقبل زاهر واعد منقذ من جميع براثين الماضي الأليم القلق على الأقل في بعض مراحله المخفقة الفاشلة.

11. أبريل 2012 - 19:36

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا