لم يتفق الطيف السياسي الموريتاني، خلال السنوات التي أعقبت اتفاق دكار، على شيئ مثلما اتفق على ضرورة إجراء حوار وطني يشمل مختلف الفرقاء، حيث دعا له الرئيس في أكثر من مناسبة، ودأبت المعارضة على التعبير عن رغبتها المشروطة في إطلاقه.
إن تلك الدعوات المتكررة للحوار تنبئ بأن خطرا ما بات يتهدد الجميع،
وأن السبيل الوحيد لمنع حدوثه هو الحوار بين الطيف السياسي الموالي والمعارض.
لقد مر البلد، ولا يزال، يمر بحالة احتقان سياسي وصلت حد القطيعة بين النظام وغالبية أحزاب المعارضة الوازنة، وأدى ذلك الاحتقان إلى ملء حلبة البرلمان والمجالس المحلية بلاعبين لا يمثلون كامل الطيف السياسي، وهو ما أورث اختلالا في توازن الرسم الكاريكاتيري للنظام الديمقراطي.
كما أن الوضع الاقتصادي للبلد، وبالذات المستوى المعيشي للمواطنين، شهد خلال السنوات الأخيرة تراجعا كبيرا لم يسبق له مثيل، شاء الموالون ذلك إم أبوه، وقد شكلت هذه الجزئية عامل ضغط على النظام ومعارضته من أجل اعتبار الحوار مخرجا آمنا للتداعيات الخطيرة للوضع الاقتصادي الكارثي.
فالنظام يتطلع إلى رفع الحصار الخارجي، غير المعلن، المفروض بذريعة الانسداد السياسي الذي تعيشه البلاد، وهو يسعى لتنظيم حوار، ولو شكلي، لإعادة ضخ القروض والتمويلات المجمدة، بينما تتطلع المعارضة إلى فرض شروطها في الحوار لتأمين مزيد من الشفافية في تسيير المال العمومي.
لذلك علينا أن نحاكم ما اصطلح على تسميته مجازا ب"الحوار الوطني الشامل"، الذي اختتم مساء الخميس، انطلاقا من ثنائية الانفراج السياسي والرخاء الاقتصادي لنرى ما الذي حققه على أرض الواقع، وهل بتنا أمام وضع توافقي واقتصادي أفضل مما كنا عليه قبل إطلاق هذا "الحوار".
إن "الحوار الشامل" لم يستطع مجرد حلحلة الأزمة السياسية، ولا أقول حلها، بل إنه عمق الشرخ حتى أنه أضاف احتقانا جديدا بين الموالاة وبعض أحزاب المعارضة التي انخرطت في أجندة الحوار معه خلال السنوات الخمس الأخيرة، وأفرط في تعزيز الأجندة الأحادية بمحاولة إنتاج دستور غير توافقي، والأخطر من ذلك تعريض رموز الدولة التي استظل الجميع تحت سقفها منذ الاستقلال للتلاعب، وفتح الباب أمام اختيار كل طرف لنشيد وعلم خاص به بعيدا عن قدسية نشيد وعلم الاستقلال.
لقد حول "الحوار الشامل" الاحتقان السياسي من تجاذب بطلاه الموالاة والمعارضة إلى قنبلة قابلة للانفجار وذلك بإزاحة الخطوط الحمراء التي كانت صِمام أمان من مخاطر الدعوات الجهوية والفئوية والعنصرية، ليجد مروجوها أنفسهم شركاء لنظام يوفر لهم الحماية من الملاحقة القانونية ويشجعهم على طرح أفكارهم الهدامة، ويساعدهم في صياغة دستور جديد يدعم سلبيات الجهوية من خلال المجالس المقترحة، وحوار يؤسس لانفصال الأقاليم، وحكومة تذكي العنصرية بالترخيص لأنشطة دعاتها.
وبالنظر إلى مخرجات "الحوار الشامل"، يمكن الجزم بإن التوافق السياسي لم يكن على طاولة المتحاورين، وحتى قبل أن تبدأ مسرحية قصر المؤتمرات كان الشعار الإقصائي (الحوار بمن حضر) موغلا في الدفع نحو مزيد من التشرذم ووضع كل العراقيل أمام السبل المؤدية لتجاوز الاحتقان السياسي.
أما على مستوى الملف الاقتصادي، فقد اقتصر اهتمام المتحاورين على صياغة جمل غير مفيدة ما لم تجد طريقها للتنزيل على أرض الواقع، وقد نسف ورودها في مخرجات الحوار كل ادعاءات النظام السابقة بالانحياز للفقراء، إذ لو كانت شعاراته بهذا الخصوص حقيقية لكانت التوصيات الخاصة بها مجرد تحصيل حاصل.
إن الجمل الواردة في مخرجات "الحوار الشامل" حول العدالة في تقسيم الثروة، وخلق فرص للتشغيل، والعمل على تعزيز القوة الشرائية وخفض الأسعار، وفرض الشفافية في التسيير... لا تحتاج إلى حوار لكي ترى النور، ولا أعتقد أن كتابتها بلوحة تحكم ستخرجها من دائرة البقاء حبرا على ورق. ذلك أن تحويلها إلى واقع يحتاج إلى إرادة غابت في ثماني سنوات كان صاحبها يأمل في الخلود على الكرسي، فكيف به ولم يبق له غير عامين لن يكفيا لحزم حقائب تحوي الميزانيات والقروض والهبات وعائدات الحالة المدنية وفوارق سعر المحروقات و"الكومسيوهات"...؟!.
وبالمحصلة، فإن الأزمة السياسية التي عاشتها البلاد خلال الآونة الأخيرة وصلت أوج احتقانها بعد "الحوار الشامل"، بل إنها انتقلت إلى دائرة النظام ومعارضته المرنة، بعد انسحاب حزب التحالف الشعبي التقدمي المعارض من جلسات الحوار وقرار رئيس الحزب مسعود ولد بلخير مقاطعة حفل الاختتام.
أما الأزمة الاقتصادية بعد "الحوار الشامل" فلن تكون أحسن حالا من نظيرتها السياسية، ذلك أن الجميع، مولاة ومعارضة، يدرك أن تنازلات النظام المتعلقة بالمأمورية الثالثة لم تكن سوى محاولة لتأمين المضي في طريق نهب الثروات وإفراغ جيوب المواطنين فيما تبقى من المأمورية الحالية.