عبرت الولايات المتحدة الأميركية عن رفضها المطلق للانقلاب على نظام الرئيس الموريتاني المنتخب سيدي ولد الشيخ عبدالله، وما كادت تمضي عدة أسابيع من المناشدة الدولية للعسكريين بإرجاع الرئيس المنتخب لمنصبه حتى بدأت الولايات المتحدة بفرض عقوبات على أعضاء المجلس العسكري الحاكم وحكومته والأغلبية الحزبية
والبرلمانية المساندة له. وتحدث العديد منالمصادر عن لقاء جرى بين السفير الأميركي بنواكشوط والحاكم العسكري الجديد وأسفر اللقاء عن سوء تفاهم ووصلت المباحثات إلى طريق مسدودة. ومنذ تلك اللحظة والسفارة الأميركية بنواكشوط تقود نشاطا سياسيا وإعلاميا قويا سعيا منها لتقويض الانقلاب وإرجاع الشرعية حسب زعمها. وتجسد هذا الرفض في النشاط الإعلامي والسياسي الواسع الذي يقوم به القائم بأعمال السفارة بنواكشوط بعدما انتقل السفير لواشنطن وبدأ إقامة مؤتمراته الصحافية من هناك. ومن الغريب أن السفارة تعتمد حاليا نوعا من الامتداح المبالغ فيه للأداء السياسي والاقتصادي لنظام الرئيس المطاح به، حيث وزعت قبل أسابيع بيانا بهذا الخصوص، كما اتصل السفير بولد الشيخ عبدالله هاتفيا بعد الإفراج عنه جزئيا ونقله إلى مسقط رأسه، ونقل القائم بالأعمال تهاني الرئيس الأميركي بوش للرئيس المخلوع مرة بمناسبة ذكرى الاستقلال الوطني لموريتانيا ومرة بمناسبة عيد الأضحى المبارك. وعُلقت كل أشكال التعاون الأمني والعسكري والاقتصادي بسبب الانقلاب ولم تستثن غير المعونات الإنسانية والإغاثية، كما ألغت إدارة بوش المزايا التجارية الممنوحة لموريتانيا والتي تقع ضمن برنامج يمكّن دول جنوب الصحراء من تصدير سلع إلى الولايات المتحدة دون دفع رسوم بموجب «قانون أميركي يدعم النمو والفرص الاقتصادية بإفريقيا». غير أن موريتانيا لن تخسر شيئا لأنه صادراتها إلى أميركا والتبادل الاقتصادي البيني ضعيف جدا إن لم نقل إنه منعدم. والأكثر غرابة أن العسكريين الحاليين هم من أقام تعاونا واسعا مع الولايات المتحدة في المجال العسكري والأمني لدرجة أن الحديث جرى خلال حكم ولد الشيخ عبدالله عن احتمال وجود سجون سرية أميركية في موريتانيا. كما بدأ نشاط عسكري مكثف يحصل في عمق الصحراء الموريتانية، وفي صيف 2008 وصلت قوات عسكرية مدينة «أطار» وأقامت معسكرا وبدأت في التعاطي مع السكان المحليين من خلال حملات العمل الإغاثي والإنساني الذي أعلن عنه رسميا والذي لم يكن في الحقيقة إلا غطاء لمهام استراتيجية وتكتيكية ذات أهداف عسكرية استطلاعية تهدف أيضا إلى تقوية دعاية مواجهة التنظيمات الإرهابية التي كانت في تلك الأشهر توشح الواجهة الإعلامية لموريتانيا، الدولة التي تعرف الانتقال الديمقراطي الأحدث في القارة السمراء وعلى تخوم البلاد العربية التي كثيرا ما وصفت بأنها مستقر الحكم الفردي الاستبدادي الرافض للتحول الديمقراطي. ما فتئت الولايات المتحدة الأميركية تعبر عن مخاوفها من استخدام تنظيم القاعدة والجماعات الجهادية المرتبطة به في إفريقيا الصحراء الكبرى منطلقا لنشاطاته وملاذا آمنا للتطور والنمو في إفريقيا بعدما وجد مستقرا حصينا في أفغانستان وبعض بلدان وسط وشرق آسيا، وهي تخوفات تبدو منطقية من الوجهة الاستراتيجية بفعل الصلة القوية بين القاعدة و «الأفغان العرب» المنتمين لمنطقة المغرب العربي خصوصا الجزائريين منهم الذين شكلوا حلقة وصل بين تجربة الجهاد الأفغاني والحركة الجهادية متعددة الفصائل التي حاولت الإطاحة بالنظام الجزائري منتصف التسعينيات بعد انقلاب الجيش الشهير العام 1992 وإقصائه المشروع الديمقراطي من آليات حسم الصراع السياسي في الجزائر في العقد الأخير من القرن العشرين. وتعززت المخاوف الأميركية بعد إعلان الجماعة السلفية للدعوة والقتال الجزائرية الانضمام المنهجي لتنظيم القاعدة العالمي بقيادة أسامة بن لادن والثناء المستمر من طرف الجماعة على هذا النهج منذ العام 2003 وحتى إعلان الانضمام الرسمي مع مطلع العام 2007 حيث تحولت الجماعة رسميا إلى: «تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي». وكانت الولايات المتحدة أبدت تعاونها مع النظام الجزائري بشكل أكبر بعد أحداث سبتمبر 2001، وتتحدث مصادر الحركات الجهادية في الجزائر عن اهتمام أميركي منقطع النظير بالجنوب الجزائري ومنطقة الصحراء الكبرى من خلال العديد من مراكز البحوث والمساعي الأمنية للاقتراب أكثر من هذه المنطقة من طرف السفارة الأميركية هناك رغم ما يسببه ذلك من امتعاض القيادة الجزائرية ذات الحس الوطني والثوري المرهف، وإن روضت ذهنية الثوريين الآن لغة المصالح ومهادنة التسلط الغربي أكثر من ذي قبل. كما لا بد من التنبه إلى أن موريتانيا معنية بشكل مباشر بالاهتمام الأميركي أكثر من غيرها لأن موريتانيا على تماس مباشر مع شعوب الصحراء من حيث البنية القبلية والصلات الروحية والثقافية والدينية. أما الجزائر فقد اكتسبت مكانة مهمة عند النخبة السياسية المنتمية لشعوب الصحراء حيث تشكل وسيطا بين العديد من الجبهات المطالبة بحقوق شعوبها في مالي والنيجر كما هو الحال مع موريتانيا التي تتخذ منها هذه الجبهات أرضية للنشاط السياسي والإعلامي من جهة وكذا العمل السياسي اللوجيستي «السري» بتغاض من السلطات الموريتانية في كثير من الأحيان من جهة أخرى. ولا بد من إدراك حقيقة مهمة وهي أن أجندة الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة المغاربية لم تتضح معالمها بعد، شأن مواقف الإدارة الأميركية في الشرق الأوسط من تفاصيل الصراع مع الكيان الصهيوني على البلاد العربية في فلسطين المحتلة وإن كانت الأقطار المغاربية جزءا مما يسمى غربيا بالشرق الأوسط الكبير، بمعايير الجغرافيا السياسية الغربية ولكنه يظل مجال امتداد للنفوذ الأوروبي وتحديدا الفرنسي أكثر من كونه امتدادا لنفوذ وتحديات الصراع مع الكيان الصهيوني والذي يتركز بالأساس في عمق المشرق العربي، ولكن المحك الحقيقي للمساعي الأميركية يتمثل بالأساس في الفرص المغرية للصحراء الكبرى لأكثر من طرف خصوصا في ظل تنافس الولايات المتحدة وفرنسا. ويبدي الأميركيون مخاوفهم من حين لآخر من أن تصبح هذه الصحراء ملاذا للقاعدة والحركات الجهادية المرتبطة بها، من هنا ندرك سر إصرار الولايات المتحدة على خوض غمار منافسة الفرنسيين. ومشروع «قيادة أفريكوم» جاهز ينتظر من بعض بلدان المنطقة أن يعطيه موطئ قدم، ويبدو الموقع الجغرافي لموريتانيا مغريا أميركيا لكونه يملك منفذا على المحيط الأطلسي ومنافذ متعددة على الصحراء الكبرى، إضافة إلى وجود ثروات بكر مع قلة السكان وقابلية البلاد للإخضاع من خلال التحكم في آليات الصراع السياسي في بلد يعيش تحديات تنافر النسيج الاجتماعي على المستوى الجهوي والقبلي بل والعرقي الذي يهدد باستمرار وحدة واستقلال موريتانيا وهويتها العربية الإسلامية. وكل هذا التعدد يغري الأجانب بالتدخل لسهولة كسب وتوظيف العديد من العوامل لصالح سياساتهم في إطار سياسة الهيمنة والإخضاع التي يتبعونها.
خلاصات - يسعى الموقف الأميركي الحالي إلى التوصل إلى إحداث تحول مؤثر في موريتانيا من خلال إخضاع العسكريين وإفشال الانقلاب، وبذلك تقدم أميركا نموذجا عربيا إفريقيا لنصرة وتكريس الديمقراطية في المنطقة وهي التي تجر أذيال الخيبة من فشل الديمقراطية في العراق الذي قدمته الدعاية الأميركية كنموذج تبشيري جديد فجاءت نتائجه معاكسة للاستراتيجية الأميركية ودعاياتها. - أن يكون هدف الموقف الحالي تكتيكيا يسعى لابتزاز القيادة الجديدة بعد إرهاقها دبلوماسيا والاعتراف بها بشروط تستجيب للأجندة الأميركية في محاربة الإسلام تحت يافطة الإرهاب وإيجاد موطئ قدم للتعاون العسكري والأمني الواسع الذي يقود إلى بناء قواعد في الصحراء تحت الخيمة الكبرى للشعوب الصحراوية وتلك الخيمة بطبيعة الحال هي موريتانيا بموقعها الجغرافي المميز المنفتح كالخيمة الصحراوية على أعماق الصحراء، وتلك خاصية لا تتوفر لأي من دول الإقليم.