الانقلابات الإفريقية ودموع التماسيح "الدولية" / محمد الحافظ ولد الغابد

محمد الحافظ ولد الغابدجاء انقلاب غينيا كوناكري الواقعة في غرب القارة الإفريقية بعد وفاة الرئيس لانسانا كونتي بعد أقل من أربعة أشهر على الانقلاب الذي حصل في موريتانيا والذي رفضه المجتمع الدولي، وما يزال حتى الآن مثار نقاش واسع على أجندة المنظمات الدولية. ويقود الاتحاد الإفريقي بدعم قوي من الجزائر مساعي في الكواليس لفرض عقوبات

على موريتانيا من أجل فرض تراجع الانقلابيين وإرجاع الشرعية الانتخابية.  وتناقلت وكالات الأنباء الموقف التقليدي للعديد من المنظمات الدولية وفي مقدمتها الاتحاد الإفريقي "المندد بالانقلاب" وهو موقف بات يثير نقاشا واسعا من طرف النخب السياسية في البلدان الإفريقية ولم يعد العديد من أطراف هذه النخب يطرب لبيانات الاتحاد الإفريقي خصوصا النخبة في كوناكري التي رحبت بالانقلاب بصورة واسعة لأنها ترى فيه فرصة لصناعة تحول سياسي نحو الديمقراطية بشروط أفضل نظرا لكون العسكريين غير المعترف بهم أكثر تقبلا للشروط من سلطة فاسدة قائمة على توازنات غير قابلة للبقاء والقيادة نحو الإصلاح الشامل. ازدواجية في الموقف من استخدام القوة وبات العديد من الأفارقة يرى في بيانات المنظمات الدولية الشاجبة للانقلابات نموذج إفلاس في مواقف المنظمات الدولية خصوصا الاتحاد الإفريقي الذي يعتبر برأي العديد من الأفارقة حارس الدكتاتوريات المستبدة في مختلف أصقاع القارة المنهكة. فرغم أن الدول الإفريقية في الأغلب الأعم لم تعرف أنظمة ديمقراطية مستقرة عبر تاريخها الحديث، فإن الاتحاد المكون من الدول والأنظمة غير الديمقراطية أدرج في ميثاقه مادة تمنع الدول الأعضاء من التعاطي مع الانقلابات في مسعى غير واقعي للحد من استيلاء العسكريين على السلطة بالقوة وهو الأمر الذي تضررت منه إفريقيا كثيرا، غير أن الاتحاد يسكت عن احتفاظ جل الأنظمة السياسية الإفريقية بالسلطة بالقوة مستخدمة الديمقراطية شعارا مزيفا لا وجود له في الواقع. ويعتبر نظام لانسانا كونتي نموذجا حيا في هذا السياق، والذي استمر حوالي ربع قرن، مما يعني أن الاتحاد متناقض في منطقه السياسي وغير صادق مع ذاته لأنه يمارس نوعا من الخداع للذات، إنه يمتنع عن الاعتراف بالسبب أو الوسيلة ويحتفظ بالنتيجة المترتبة عليها في مغالطة غير ذكية للشعوب الإفريقية التي لم تعد غبية لهذا الحد وخبرت حيل الأنظمة وأحابيل القادة بما فيه الكفاية.  الانقلابات ودموع التماسيح  ما إن خرج البيان رقم واحد لانقلابيي غينيا حتى خرجت بيانات المنظمات الدولية منددة بالانقلاب على الدستور والانتقال السلمي للسلطة بصورة سلسة في غينيا كوناكري التي رحل رئيسها فجأة مخلفا وراءه تراكمات عقود من الترهل السياسي والإداري والتخلف الاقتصادي والشكاوى المستمرة للنخب الغينية من الفساد المالي والإداري وتزييف الانتخابات، ليبقى الرئيس الاستثنائي ممسكا بالسلطة التي احتال لها وراوغ من أجلها وفوّت على البلاد والعباد فرصا ذهبية للتطور الديمقراطي والإصلاح السياسي في ظل خرس وصمت مطبق للمنظمات الدولية خصوصا الإفريقية التي صمتت دهرا عن حبس أنفاس الديمقراطية التي اغتيلت وسجيت في إهاب الانتخابات الشكلية المزيفة دون أن تسأل عنها أي من المنظمات التي تذرف عليها دموع التماسيح الآن، ثم تأتي بياناتها الشاجبة في هذا الوقت بعدما قدمت سنة الحياة ودورة الزمن الحل: "موت الزعيم رغم أنفه". نعم، ففي البلدان التي يحكمها الدكتاتور تشكل فرصة الوفاة الطبيعية إحدى الفرص الوطنية الهامة لمراجعة النظام السياسي في غينيا وغيرها من البلدان المشابهة، وقد تفضي هذه الفرصة وما ينتج عنها من مراجعة سياسية للتقليل من الفساد ومراكمة الخبرة في مجال الانتقال السلمي. ولا نقول إنها ستشكل فرصة انتقال نحو الديمقراطية بصورة مطلقة ولكن نحو مزيد من الشفافية والمشاركة السياسية وإحياء أمل جديد لدى الشعب الغيني الذي أرهقه قمع الزعيم الهالك واعتراف المجتمع الدولي بنظامه المتشح بشكلية فارغة للديمقراطية. ويعتبر العديد من الأفارقة أنه كان من الأجدر بالاتحاد الإفريقي أن يكون أكثر إخلاصا لميراثه وأكثر صدقا مع شعوبه كما هو حال الجيل الأول من القادة والمؤسسين، فهو وريث منظمة الوحدة الإفريقية التي اقترنت في الذاكرة الشعبية للأفارقة بمناهضة الإمبريالية والاستعمار وأسسها قادة حركات التحرر الوطني الأكثر حضورا بالذاكرة اليوم من زعماء وقادة دول الاتحاد الحاليين الذين آثروا الاعتماد على سلطة القبيلة والجهة والتحكم في صناعة معايير الولاء لأحزابهم وأشخاصهم بعيدا عن معايير القوة والأمانة في التولية والعزل من المسؤوليات الإدارية والسياسية مما كرس سياسات الإفقار والفساد والقضاء على آمال شعوبهم في الحرية والديمقراطية بالأحرى التنمية والرخاء الاقتصادي في ظل الأزمات المتلاحقة التي طحنت شعوب القارة بشكل غير مسبوق. انشغال بالشكل عن الجوهر تنخرط المنظمات الإقليمية المهتمة بشؤون القارة في الدوران في فلك تيه ردة الفعل دون التصدي لجذور المشكلات التي هي منبع الأزمات الإفريقية من حروب ومجاعات، وهي المبرر المقنع الذي تتشبث به الحركات الانقلابية والتمردية العسكرية في طول القارة وعرضها. ومن الطريف أن قائد الانقلاب الحالي في غينيا عزف على هذه الوتيرة بسرعة محاولا إقناع الطبقة السياسية أنه سيترك السلطة في أقرب وقت فقال: "نحن لسنا طموحين، وندعو الله أن يبعدنا عن الظلم والقبلية والفساد"، وعد لن يعدم لاحقا المبررات المقنعة أو غير المقنعة للانقلاب عليه وسيساعده ميثاق الاتحاد الإفريقي الذي يحمي الأنظمة العسكرية التي تتدثر بالانتخابات لصناعة شرعية مزيفة حتى وإن كان العسكري الانقلابي الجديد بليدا غير مؤهل بشهادة زملائه في الدراسة، حيث يقول أحدهم: "درس كامارا في كلية الحقوق والعلوم الاقتصادية في جامعة عبدالناصر في كوناكري. وذكر رفاقه أنه لم يكن طالبا نجيبا". ووصفه عسكريون يحيطون به منذ تعيينه رئيسا للمجلس العسكري بأنه "رجل عملي حاد المزاج ويحب التوصل إلى حلول فورية للمشكلات". كما اشتهر بأنه "يعمل بدأب كبير" وأنه "شديد الطموح". وإذا كانت هذه الصفات كافية لصناعة زعيم فإن صُنّاع الآلهة في الوسط السياسي في غينيا بدؤوا فعلا عملهم، فها هو رئيس الحكومة المطاح بها يبدأ بوصف الرئيس الجديد بـ "المنقذ الحكيم" في مغازلة سريعة للزعيم الجديد، وتلك طريقة يحسنها الساسة الأفارقة بامتياز حيث يخرجون الحاكم عن بشريته عبر هذه الأوصاف ولا تسأل بعد ذلك عن مصير الفعل والسلوك السياسي لهذا النمط من الزعماء الذين تحولهم دعاية التصفيق بسرعة إلى آلهة تعبد وليس قائدا سياسيا يحاسب ويقوم أداؤه! تزكية سنغالية لقائد الانقلاب  وإذا كان الانقلاب بحاجة للشرعية الدولية والإقليمية فقد رحب به الرئيس السنغالي عبدالله واد من باريس حيث قال "أعتقد أن هذه المجموعة تستحق الدعم"، كاشفا أن قائد الانقلاب خاطبه بلقب "بابا" خلال المحادثة الهاتفية التي جرت بينهما. وأوضح واد أن النقيب كمارا بدا له شابا نقيا يريد فعل الخير ولا طموح سياسيا له. والسنغال التي تعتبر الديمقراطية الأعرق في إفريقيا لها مكانة مهمة على المستوى الأوروبي لأنها تشكل قاعدة لفرنسا التي خضع لها غرب القارة لعدة قرون، وهي مهمة الآن أيضا لأنها تقود منظمة المؤتمر الإسلامي. وتبقى البلدان الإفريقية بين خيارين أحلاهما مر: إما أن تصبر على الديمقراطيات الشكلية التي ينخرها الفساد والمحسوبية، أو الانخراط في تعليق الآمال على انقلابات عسكرية تنهي الأنظمة القائمة ولكنها تؤسس في الغالب لديمقراطية شكلية أيضا تحمي الزمرة المتنفذة لبدء رحلة الفساد والمحسوبية من جديد في تجل واضح للسيزيفية في الأساطير القديمة.

25. يناير 2009 - 0:00

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا