دفعت قمة الاتحاد الإفريقي الأخيرة في أديس أبابا إلى تدويل الملف الموريتاني، في سابقة خطيرة سيكون لها تأثير سلبي كبير على واقع الحياة السياسية والاقتصادية في هذه البلاد الفقيرة ذات النسيج الاجتماعي الهش، وتعمل العديد من المنظمات الدولية على فرض عقوبات على العسكريين الذين نفذوا الانقلاب في السادس
من أغسطس 2008. ومن أهم الصعوبات التي تواجهها موريتانيا في الوقت الحالي سيف العقوبات المصلت على رقاب حكامها، والذي ستكون آثاره مدمرة على الشعب قبل حكامه، ويعتقد العديد من المراقبين أن تدويل الأزمة وجعلها بين يدي مجلس الأمن والأمم المتحدة سيخرج العديد من أوراق اللعبة الموريتانية من يد الفاعلين السياسيين المحليين، سواء في ذلك العسكر الحاكمون أو الأحزاب الرافضة للانقلاب، والفائدة الوحيدة لهذا التحول -إن حصل- هو كونه سيتيح للأقليات العرقية مجالاً لأخذ العدالة بـ «إشراف الجنائية الدولية» من خلال فتح تحقيق في التهم الموجهة لضباط في الجيش الموريتاني بارتكاب جرائم عرقية سنوات 1987، 1989، 1991، كما سيفتح المجال واسعاً لإعادة رسم الخريطة على أساس تقسيم السلطة والثروة بين الأعراق المتعددة والمتنافرة. ولا يستبعد العديدون أن يدفع محور طرابلس– الجزائر في الاتحاد الإفريقي نحو مزيد من تدويل الأزمة، خصوصاً أن الانقلابيين مقربون من المغرب ولهم طموحات سياسية واقتصادية تتجه لاستغلال النفط في حوض «تاودني» المصاقب للحدود مع الجزائر، حيث وقع الجنرال ولد عبدالعزيز اتفاقاً مع شركة «توتال» الفرنسية لاستغلال الثروة النفطية في الأرض الموريتانية، ويعتبر بعض المراقبين أن بعض دول الإقليم غير راضية عن التحولات السياسية والاقتصادية التي تعرفها البلاد، والتي قد تقود لخروج الدولة الضعيفة المتقوقعة من شرنقة سيطرة الكبار في الإقليم.
القذافي بين موقفي الشانئ والمغيث! أما العقيد القذافي فقد مارس على طريقته الخاصة سخريته اللاذعة من الديمقراطية الموريتانية، منتقداً احتفال موريتانيا بنزاهة انتخاباتها 2006، ومعتبراً أن الأرضية المخصبة قبلياً وعشائرياً لا تصلح لغراس الديمقراطية واستنبات الحريات، لأن الروح الحزبية في النظام الديمقراطي تهيج الصراع القبلي والجهوي. معطىً يبدو منطقياً، ولكن موريتانيا ونخبها السياسية امتعضت منه، لأنه يبدو كما لو كان نوعاً من الحسد! كما قال الشاعر: كضرائرِ الحسناءِ قُلنَ لوجهِها حسداً وبغضاً: إنه لَدميمُ بغض النظر عن دقة ملاحظة القذافي التي لا تبدو غريبة من مثله، وهو صاحب الخبرة السياسية الطويلة في مناهضة التحولات الديمقراطية، خصوصاً وهو الحاكم العربي الوحيد المهتم بفلسفة التاريخ، بل وكاتب روائي شهير على المستوى العربي، ويملك مواهب فريدة في أداء الأدوار المثيرة في المسرح السياسي العربي على الإطلاق لا يدانيه في ذلك أحد من زعماء العرب المعاصرين، فالقائد الجديد للاتحاد الإفريقي يجد بين يديه ملف الصراعات القبلية في موريتانيا بـ «منظوره الخاص» بكل تفاصيلها وتداعياتها، وقد أرسل من جانبه موفداً للقاء «أطراف الأزمة». وتتحدث مصادر عديدة عن مغادرة موفده خالي الوفاض، إذ لم يحصل على تنازلات من الأطراف المعنية. وقد كان من سوء الطالع أن يجد أطراف الصراع الموريتاني الحالي أنفسهم مجبرين على تعليق الأمل على العقيد الذي بدأ بسرعة لعبته الذكية في اللعب على جميع الأطراف، فعندما وجد أن موقف الاتحاد الإفريقي مصرّ على فرض عقوبات على العسكريين نزولاً عند رغبة مناوئي الانقلاب الإقليميين والدوليين، قال: لا بأس، وعمل على أن تصدر دول «س ص» (تجمع الساحل والصحراء) بياناً يدعو لدعم المسلسل الذي أعلن عنه العسكر في حرص على رضا مختلف أطراف الصراع.
الديمقراطية الموريتانية غير مرغوبة مغاربياً! من علامات الشقاء الملازم للديمقراطية الموريتانية لهذا العهد أنها تأتي في سياق عربي رافض للتحولات الديمقراطية الحقيقية، خصوصا في بلدان الهوامش والأطراف التي يجري عليها صراع تغذيه «عقدة إثبات الذات» التي تعاني منها بعض دول الإقليم المغاربي الكبرى، خصوصا المغرب والجزائر، فقد ظل المغرب لعدة عقود يمانع في الاعتراف بموريتانيا بوصفها الامتداد الجنوبي لنفوذ الملوك والسلاطين المغاربة، خصوصاً في القرون الأخيرة. أما الجزائر فقد حرصت على دعم جبهة البوليساريو في محاولة منها للتأثير على شعوب الصحراء الكبرى، من خلال دعم استقلال موريتانيا والصحراء الغربية، حتى لا تكسب الأنظمة التي كانت تسمى منتصف السبعينيات «أنظمة رجعية» في مقابل الأنظمة الثورية التقدمية التي مثلتها الجزائر بعد استقلالها عن فرنسا، وفعلاً استطاعت موريتانيا تثبيت استقلالها المتأرجح وقادت جبهة البوليساريو حربها من أجل الاستقلال عن الاستعمار الإسباني والهيمنة من طرف المغرب. وجاء المسار الديمقراطي الانتقالي الذي قاد إليه انقلاب 3 أغسطس 2005 لينبئ عن فجر صادق أو كاذب لعهد ديمقراطي، اعتبر تحولاً جديداً في إطار ترسيخ الدولة الموريتانية، غير أن العديد من الأطراف المغاربية نظرت بحذر لهذا التحول وراقبته من بعد ولكنها تتبعت تفاصيله والمؤثرات الإيجابية والسلبية التي سيقود إليها، ويمكن أن نعتبر أن العديد من الأنظمة المغاربية لم تكن مستريحة للمشهد الموريتاني وهو ينعم بالحرية، خصوصاً وأن السلطة الموريتانية لم تنتبه لخطورة التحولات الداخلية وقراءة الأنظمة المغاربية لها لاسيما المملكة المغربية، التي لم تبد ارتياحها لنظام الرئيس ولد الشيخ عبدالله، ومشهد القوى السياسية الملتفة حوله، والتي تصدّرها السياسيون الداعمون لقضية تحرر الصحراء من أي نفوذ مغربي، وهو ما لا يتماشى مع طموحات «المخزن في الرباط»، والذي يريد من موريتانيا أن تكون محايدة في العلن وداعمة لتوجهاته في الخفاء، وهي معادلة صعبة، فلن تنجح نواكشوط في موقفها من الصحراء الغربية ما لم تتمكن من ضبط عواطفها الحقيقية وأوهمت كل طرف أنها تدعمه ولكن «سراً» وأعطت مؤشرات على ذلك، و «هذا صعب جداً»، ولكن العبقرية السياسية تتجلى أكثر للقادة الموريتانيين في مثل هذا النوع من المواقف، وكتب القدر على موريتانيا أن توجد موقفاً مُصانعاً لكل طرف بما يحقق رضاه، وهو ما يبدو مستحيلاً نظراً لحدة الصراع بين المغرب والجزائر واستحالة رضا أي منهما بمجرد الحياد في هذه الحالة، فلن يرضى أي منهما إلا إذا اتبعت طريقته وملته السياسية في هذا الملف المعيق للتفاهم المغاربي.