ظل القطاع الزراعي منذ أمد ليس بالقريب، مرتعا خصبا لشبكات الفساد ، وميدانا فسيحا ، يخضع لسطوة نفوذ أباطرتها ، مما قلل من العائد الاقتصادي للأموال التي توجه إليه ، برغم أهميته الإستراتجية ، وارتباط أدائه بمستوى الفقر .
وإذا كنا لا ندعي الحق في إصدار أحكام بالإدانة ،
ولا القدرة علي تقديم أدلة مسكتة ، كما لا ندعي الإحاطة بملفات الفساد في القطاع ، فان من حق القارئ علينا ، كما أن من واجبنا اتجاه هذا البلد ، أن نقف عند محطات نراها جديرة بالفحص ، أو مثيرة للشبهة علي الأقل .
ولنبدأ بما نعتقد أنه أكثر صفقات الفساد وقاحة ، وإن لم يكن أكبرها قيمة . إنه نهب نحو 2.860.000.000 أوقية من خزينة القرض الزراعي السابق، في عملية واحدة ، خلال السنوات الأخيرة .
ويبدو أن الأمر يتعلق بقروض منحت لشركات وهمية ، لتختفي الشركات مباشرة ، بعد تحويل المبالغ ، ولتختفي معها ملفات القروض لدى المؤسسة المانحة نفسها .
وبضغط من بعض الخيرين داخل مجلس إدارة القرض، شكلت لجنة تحقيق ، تتبعت مسار الأموال في الحسابات ، واستجوبت كل من تعتقد أنه يحتمل أن تكون له علاقة بتلك التحويلات . لكن الجميع أنكر ، ولم يعد لدي مؤسسة القرض وثائق إثبات .
وانتهت اللجنة في تقريرها ، الذي نحتفظ بصورة منه ، إلي أن . لكن لم تتم محاسبة أحد حتى الآن ، بل إن المسار قد لا يخلو من ترقيات بعد ذلك ! ..
وبما أن ديون القرض الزراعي تم إلغاؤها، فقد تم تبييض المبلغ المنهوب ، ليتمتع الناهبون بالحصانة من المطالبة بالتعويض . وهذا ما يجعلنا نخشى أن تكون المكافحة قد تحولت إلي مكافأة .
يحدث هذا في بلد نحو نصف شعبه محروم ، من المياه الصالحة للشرب، بسبب عجز ميزانيات الدولة عن تأمينه . فكم يستطيع هذا المبلغ الضخم ، أن يؤمن من آبار ارتوازية لآدوابة المحرومين ؟ ! وكم يستطيع أن يبني من مدرسة في مثل أدباي كًُلاكًة ، البالغ عدده نحو 1600 شخص ، والذي لم ينه أي طفل منه المرحلة الابتدائية حتى اليوم ، بسبب انعدام البني التحتية المدرسية الملائمة ؟ وأنى لأبناء أدباي كًُلاكًة ، أن يطمعوا بترف التعليم ، وهم لم يعرفوا منذ الاستقلال ، حتى ما قبل أشهر ، إلا مياه السد الآسنة ، التي قضت علي أعداد منهم ، في موجات أمراض متتالية ، لأنها تحتوي علي أربعة مواد ضارة ، تجعلها غير صالحة للاستهلاك الآدمي ، حسب معايير منظمة الصحة العالمية ، طبقا لما أثبته فحص بمختبر وزارة الصحة ، أجري بناء علي طلب منا ؟
أما الملف الثاني ، الذي نراه جديرا بوقفة فاحصة ، فهو ملف حاصدات وجرارات FOTON . فقد تم بموجب صفقة حكومية ، قبل سنوات ، استيراد عشرين حاصدة صينية من نوع FOTON ، مع عشرين جرارا من نفس الماركة ، بتكلفة باهظة بلغت نحو 1.200.000.000 أوقية ، أي بتكلفة 60.000.000 أوقية للحاصدة مع جرارها ، هذا مع العلم بان التكلفة الفعلية للحاصدة مع جرارها من هذه الماركة ، لا تتجاوز نحو 14.000.000 أوقية ،
حسب بعض العارفين بالسوق الصينية (استورد مزارع ثلاثا منها مع جراراتها بنحو هذه التكلفة الأخيرة . وقد تعطلت جميع هذه الحاصدات لتخرج من الخدمة في موسمها الثاني ) . وقد كانت هذه الماركة أردأ ما وصل إلي السوق الموريتانية من الحاصدات ، وبدأت أعطالها، التي لا تنتهي من أول حملة تدخل فيها الخدمة، ليتحول هذا السرب المشئوم عند المزارعين، الي جثث متناثرة في أرض شمامة ، برغم أنها آخر دفعة وصلت الي شركة الآليات الحكومية ( اسنات ) .
هذا مع العلم بان أعلي ماركات الحاصدات العالمية، مثل ( انيوهولاند ) ، لا يتجاوز ثمنها مسلمة في السنغال نحو 42.000.000 أوقية. وهي ماركات تتميز بسرعة الحصاد ، وجودته ،مع ندرة الأعطال ، وتستمر في الخدمة نحو ثلاثين عاما .
وكانت من أبرز نتائج صفقة ( FOTON) ، بالإضافة إلي خسارة دافعي الضرائب لمبلغها ، استمرار خسارة نسبة مرتفعة ، من محصول الأرز، بسبب تأخر الحصاد، الناتج عن النقص الحاد في الحاصدات .
ويمكن أن ندرك فداحة الخسارة ، إذا عرفنا أن الاكادمية الأمريكية للعلوم، تقدر نسبة الخسارة خلال عمليات الحصاد في إفريقيا بنحو 36 % ، وأن إنتاج موريتانيا من الأرز الخام، بلغ في السنة الزراعية 2014-2015 نحو 293.000 طن من الأرز الخام ، قيمتها نحو 30.000.000.000 أوقية . فهل هدى الله المفسدين أم افسد المصلحين ؟
ويحتاج ملف صفقة الأسمدة للموسم الزراعي 2011-2012 إلى الإجابة علي حزمة من الأسئلة الوجيهة . فقد حرمت الشركة التي تقدمت بأقل عرض في مناقصة الشراء من الصفقة ، وعهد بها إلي جهات أخرى أعلى تكلفة . وقد وجهت الشركة ( المحرومة ) رسالة احتجاج إلي جهات عليا ، لم تحظ بالتجاوب .
وبرغم استعداد مسئول في الشركة المذكورة ، لتزويدنا بصورة من رسالة الاحتجاج ، إذا راجعنا مكاتبها في انواكشوط ، إلا أننا وجدنا صعوبة في تصديق الأمر ، إلي أن أكده لنا عرضا، الأمين العام لأحد القطاعات المعنية بالأمر .
والأمر الأخطر أن الأسمدة ، التي أدخلت من السنغال عبر روصو ، من ضمن هذه الصفقة ، تمت جمركتها ، بناء علي تعليمات من انواكشوط ، بمبلغ لا يتجاوز 7500 أوقية للطن، علما بان النسبة القانونية للرسوم الجمركية عليها تبلغ 9،24 % من ثمنها ، وأن تكلفة استيرادها تزيد على 240.000 أوقية للطن ( من ضمنها النقل والتخزين .. الخ ) .
يضاف إلي هذا ، أن الأسمدة لم تصل إلا بعد نهاية الحملة الصيفية، مما سبب خسارة كبيرة للمزارعين، وهي الخسارة التي دفعت كاتب المقال إلي رفع قضية في محكمة ولاية اترارزة ، صيف عام 2012 ، باسم رابطة التطوير مطالبا وزارة الزراعة بدفع تعويضات للمزارعين تبلغ ما يقرب من 12.000.000.000 أوقية، تعويضا عن الخسائر التي تكبدوها بسبب تأخر الأسمدة . وقد قبلت المحكمة الدعوى ، وشكلت لجنة للتحقيق فيها . كما استعانت الرابطة بالبرلمان الذي قدم مساءلة ، وأجري مناقشات حول الموضوع .
وآخر الفضائح المرتبطة بهذه الأسمدة ، ما أظهرته نتائج فحص أجراه مزارعون مستقلون ، على عينتين من هذه الأسمدة النتروجينية ( اليوريا ) ، في معهد البحوث الزراعية السنغالي ، حيث أظهر الفحص، أن نسبة النتروجين في إحدى العينتين، لا تتجاوز نحو 14 % ، بينما تبلغ في الثانية نحو 19 % ،بدلا من 46 % التي هي النسبة الصحيحة للنتروجين في اليوريا .
وما زلنا نحتفظ بصورة من نتائج هذا الفحص ، الذي اطلعت عليه الجهات الرسمية ، لكن أي تحقيق لم يجر حوله علي الإطلاق .. !
الملف الرابع ،هو ملف الأرز ، و ما أدراك ما الأرز ؟ إنه أكثر من 50.000 طن من الأرز نصف المقشر، الذي تسلمته سونمكس، من أصحاب المصانع ، بتكلفة تبلغ نحو 10.000.000.000 أوقية ، و دفعت ببعضه إلى دكاكين أمل، في أكبر حملة لتشويه المحصول الوطني ، بينما ما يزال أغلبه حتى الآن ، مكدسا في مخازن سونمكس ،حيث
لا تستطيع الحكومة أن تقدمه حتى للحيوانات ، قبل التأكد من أنه آمن عليها . هذا مع العلم بأن الاتفاق الذي تركت لسونمكس أمانة تطبيقه ،ينص على ألا تستلم من أصحاب المصانع، إلا أرزا مقشرا بطريقة ممتازة . و مع ذلك فإن هذه الجريمة الاقتصادية، التي ارتكبت بحق هذا المحصول الوطني الاستراتجي ، وأدت إلي رفع الحكومة يدها عن شرائه ، مرت بردا وسلاما علي مرتكبيها ، دون أي تحقيق أو مساءلة .
وقد ترتب علي رفع الحكومة يدها عن شراء المحصول الوطني، انهيار الإنتاج المحلي إلي نحو ثلث ما كان عليه قبل عام واحد .
وما كشفته الأحداث الأخيرة من مستوى الفساد في سونمكس ، يدفعنا إلي التساؤل عما إذا كان الحريق الذي اندلع في مخازن هذا الأرز قبل أشهر ، متعمدا لإخفاء نقص في الكميات الموجودة ،يضاف إلي النقص في تقشيره ؟
ومن الملفات المشبوهة، ملف آلاف الهكتارات المستصلحة ،من قبل الدولة، والتي تم استلامها من الشركات المكلفة بها ، من دون أن تكون مطابقة للمواصفات الفنية المطلوبة ، وهو ما دفع بآلاف الأسر الزراعية المستفيدة إلي الإفلاس ، وتراكم الديون ، بسبب الخسارات الناتجة عن العيوب في الإستصلاحات . هذا مع العلم بان الدولة تدفع نحو 2.700.000 أوقية عن استصلاح الهكتار الواحد .
أما ملف التعاونيات الزراعية الوهمية ، التي نهب عن طريقها ما نقدر قيمته بنحو 12.000.000.000 أوقية من الأسمدة المجانية ، فذلك حديث ذو شجون ، تناولناه في حلقة من البرنامج التلفزيوني الذائع الصيت : في الصميم ، وهي منشورة علي صفحتنا علي الفيسبوك ، وما كنا مطيلين المقال بالحديث عنه هنا .
وآخر الملفات المشبوهة ، ملف زراعة القمح، الذي يمثل في نظرنا قنبلة هيدروجنية ، طالما توقعنا انفجارها علي مصنعيها . ذلك أن القمح جرت زراعته ، علي مدى سنوات ، بطريقة خاطئة ، لا يمكن أن تأتي بنتائج تذكر . فهو يزرع بنظام الري بالغمر ، أسوإ أنظمة الري، وأقدمها علي الإطلاق ، وهو نظام لا يصلح لمحاصيل الحبوب ، في أرض غير مسواة بالليزر ، باستثناء الأرز . كما انه يبذر نثرا باليد ، بدل استخدام البذارات الآلية .
ولم تفلح جهود كبيرة ، قمنا بها ، في حمل الوزارة علي تعديل هذا المسار ، فأدركنا قيمة مقولة الأحنف بن قيس : .
وكانت النتيجة في العام الأول ، الحصول علي نتائج هزيلة ، جعلت المزارعين يعزفون عن زراعته في الأعوام التالية ، ما عدا أفرادا قلائل، ترتبط مصالحهم بمجاملة الوزارة ، خاصة أن المدخلات الزراعية تصرف مجانا . وبدلا من تعديل المسار ، جرى التغطية علي الأخطاء بإنفاق المزيد من أموال دافعي الضرائب ، واللجوء إلي زراعة الكذب ، عن طريق توزيع كميات كبيرة من البذور والأسمدة المجانية ، لزراعة مساحات وهمية . وينتهي الموسم بالحديث عن إنتاج آلاف الأطنان من القمح ، حتى وصلت بورصة الكذب إلي القول إننا ننتج 9،4 % من احتياجات البلاد من القمح .. ! كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا .
ولعلك ، عزيزي القارئ ، أدركت الآن، جانبا من الأسباب التي تجعل القطاع الزراعي لا يساهم إلا بقدر محدود، في تأمين احتياجات البلاد الغذائية ، حيث نقدر ما تستورده موريتانيا ، من المواد الغذائية ( بما فيها السكر والزيوت ) بما يعادل ثلث ميزانيتها السنوية .
فهل هذا النزيف النقدي في الواردات طريقة حكيمة لتنمية البلاد ؟ أم علي قلوب أقفالها ؟
وإلى أي محطة توصلنا هذه الطريق التنموية الموحشة ، التي تسلكها بنا صفوتنا ؟
نسأل الله ألا تكون محطة الصومال ولا مالي ... ! وليحفظ الله مجتمعنا ، فإنها لا تعمى الأبصار ، ولكن تعمي القلوب التي في الصدور .
اللهم إنا لا نسألك رد القضاء، ولكنا نسألك اللطف فيه .