الدستور هو العمود الفقري لنظام الدولة ولذلك فإن المساس به يجب أن تسبقه احتياطات خاصة تضمن سلامة العملية الصعبة ولتلك العلة يتهيب المختصون، أكثر من غيرهم، التعديلات الدستورية خوفا على أساس الدولة وتجنبا لتقويض بنائها كما يتهيب الأطباء الإقدام على إجراء عملية في العمود
الفقري ولأن المخاطر التي يمكن أن تترتب على هذه العملية كبيرة حد الشلل لا يجوز الإقدام عليها إلا بعد عجز المريض أو إجماع ذويه على ضرورة التدخل الجراحي.
وفي سياق التعديلات الدستورية التي يجري الحديث عنها لفت انتباهي بيان مجلس الوزراء المنعقد يوم الخميس 3 نوفمبر 2016 وتابعت آراء مختصين من الطرفين ممثلة في الأستاذ/ محمد الأمين ولد داهي في مقابلته مع تلفزيون المرابطون حيث عبر في "برنامج ساعة حوار" مساء يوم 3 نوفمبر، عن اعتقاده بعدم جواز التعديل الدستوري إلا بعد مصادقة ثلثي أعضاء الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ والرأي المعاكس الذي أبداه الأستاذ/ محمدو ولد محمد المختار في مقاله المعنون "حول مسألة عرض التعديلات الدستورية على الإستفتاء الشعبي مباشرة" المنشور يوم 5 نوفمبر 2016 على موقع أقلام ولذلك ارتأيت إبداء رأي فني في الموضوع.
1.
إذا كانت مناهج تدريس القانون تقتضي تلقين الطلبة للنظريات والتعريج بهم إلى القانون المقارن لتوسيع مداركهم فإن تلك المقاربة يتعين أن تتقيد بالإطار الأكاديمي وأن يتجاوزها القانونيون عندما لا يكونون بصدد الدروس النظرية لأن الممارسة العملية تقتضي التعامل مع الوسائل الملزمة من نصوص دستورية ومدونات وطنية "تعتبر التعبير الأعلى عن إرادة المجتمع ويجب أن يخضع لها الجميع" وإن تأتت المقارنة فيتعين أن تكون انطلاقا من معطيات واقع الشخص لا من تاريخ غيره.. ولذلك الإعتبار لا أجد حجية وطنية للتاريخ الدستوري الفرنسي وما كان من مبادرات شارل ديجول التي يتعين الإلتفات عنها إلى مقتضيات الدستور الموريتاني النافذ إعمالا لمبدإ عدم جواز الإجتهاد والقياس مع وجود النص.
2.
تنص المادة 99 من دستور الجمهورية الإسلامية الموريتانية على ما يلي:
"يمتلك كل من رئيس الجمهورية وأعضاء البرلمان مبادرة مراجعة الدستور.
لا يناقش أي مشروع مراجعة مقدم من طرف البرلمانيين إلا إذا وقعه على الأقل ثلث (1/3) أعضاء إحدى الغرفتين.
لا يصادق على مشروع مراجعة إلا إذا صوت عليه ثلثا (3/2) أعضاء الجمعية الوطنية وثلثا (3/2) أعضاء مجلس الشيوخ ليتسنى تقديمه للإستفتاء.."
ومفهوم الفقرة الأولى من هذه المادة أن مبدأ مبادرة مراجعة الدستور حق لرئيس الجمهورية ولأعضاء البرلمان. كما أن مفهوم الفقرة الثانية هو أن مبادرة البرلمانيين مقيدة بتوقيع ثلث أعضاء إحدى الغرفتين (لا كلتيهما).
أما الفقرة الثالثة فيستفاد منها أن مشروع المراجعة يتطلب مصادقة ثلثي أعضاء الجمعية الوطنية وثلثي أعضاء مجلس الشيوخ (وقد حرص المشرع على تكرار النسبة) وهو ما يجب أن ينطبق على مشروع المراجعة أيا كان سواء صدرت مبادرة تعديله عن رئيس الجمهورية الذي يملكها دون قيد أو عن البرلمان الذي يملكها بشرط. فمشروع المراجعة لا يتأتى إلا بعد صياغة فنية دقيقة يجب أن يمحصها الخبراء قبل أن تجيزها غالبية المشرعين حتى يمكن عرضها على الإستفتاء الشعبي ضمانا لسلامة المقتضيات الدستورية واستقرارها.
فمفهوم المادة 99 أن المسطرة العادية للمراجعة الدستورية هي أن يتم إعداد مشروع التعديل الدستوري من المبادر قبل أن يتم إقراره من طرف ثلثي أعضاء الغرفتين وتحسبا لما يمكن أن يثور من جدل في الموضوع يجوز للرئيس طبقا للمادة 101 من ذات الدستور أن يقرر، بعد إقرار الثلثين طبعا وقبل الإستفتاء، عرض مشروع التعديل الدستوري على البرلمان مجتمعا في مؤتمر للمصادقة عليه بأغلبية ثلاثة أخماس الأصوات المعبر عنها وهو إجراء لا يغني عن الإستفتاء الدستوري وأعتقد أن تطبيق المادة 101 من الدستور تم بطريقة خاطئة، سنة 2012، كما تبينه الفقرة 5 أدناه.
3.
أما استفتاء الشعب في القضايا ذات الأهمية الوطنية المخول لرئيس الجمهورية بموجب المادة 38 من الدستور فلا ينطبق من حيث المبدأ على التعديلات الدستورية لأن ذكر هذا الإستفتاء ورد في الباب الثاني من الدستور وعنوانه "حول السلطة التنفيذية" بينما تم تنظيم التعديلات الدستورية في مقام خاص هو الباب الحادي عشر من الدستور، المعنون "حول مراجعة الدستور". وقد وردت المادة 38 بعد المادة 37 المتعلقة بحق رئيس الجمهورية في العفو وتخفيض العقوبات وقبل المادة 39 المتعلقة بإعلان تدابير الطوارئ في حالة الخطر المحدق بمؤسسات الجمهورية.
4.
ويتبين من محضر اجتماع مجلس الوزراء في دورته المنعقدة يوم الخميس 3 نوفمبر 2016، أنه أقر "المصادقة على مشروع قانون دستوري يتضمن مراجعة دستور 20 يوليو 1991 والنصوص المعدلة له"، وتعتبر هذه المصادقة غريبة من منظور القانون "فما دخل الحكومة" في التعديلات الدستورية اللهم إلا إذا كانت مدخلا للإحالة إلى السلطة التشريعية التي نص الدستور على وجوب مصادقتها على التعديلات الدستورية وكيف يتم إقرار قانون دون المرور بالجهة المختصة.
ولعل أغرب ما في مسطرة التعديلات التي يجري الحديث عنها، بغض النظر عن تجاوز السلطة التشريعية، عدم وجود أي مشروع مراجعة معلن حتى الآن فمسطرة المراجعة فيما يبدو لم تتجاوز طور المبادرة لأنه لا علم لأغلب المواطنين بالمواد التي سيتم تعديلها.
5.
إن ثمة فرق قانوني كبير بين التصويت على النصوص والمصادقة على مشاريعها فكما أن مصادقة الحكومة على مشروع قانون لا يترتب عليها أكثر من إحالته إلى غرفتي البرلمان للتصويت عليه فإن إقرار مشروع تعديل دستوري من طرف ثلثي أعضاء البرلمان إنما تخول جواز إحالته للإستفتاء الشعبي. وجلي أن عدم مراعاة الأشكال المقررة قانونا أدى لنتائج فادحة فقد صدر مشروع قانون دستوري، في 20 مارس 2012 ونشر في الجريدة الرسمية عــــ1262ــدد بتاريخ 30 ابريل 2012، وتم تنفيذه باعتباره ترتيبا دستوريا نافذا بعد مصادقة ثلاثة أخماس مؤتمر البرلمان (60 %) .. وهي نسبة لا يجوز لها عقلا تعديل وثيقة تتطلب مجرد المصادقة على مشروع تعديلها مصادقة الثلثين من ذات الهيئة (66 %) .. فبأي منطق تكون نسبة ثلاثة أخماس مؤتمر الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ أقوى أثرا من ثلثي أعضاء تينك الهيئتين! ألا يعني القول بذلك بأن 66 % أقل من 60 % ؟
6.
وجملة القول أن التعديل الدستوري ليس عملية سهلة وما ينبغي لها أن تكون كذلك فرئيس الجمهورية ملزم باحترام الدستور بموجب القسم الذي يؤديه قبل مباشرة مهامه ولذلك فليس له (الرئيس) أن يمرر تعديلا دستوريا لا يراعي المسطرة الصارمة المقررة للمراجعة الدستورية. بل إن واجب رئيس الجمهورية يقتضي منه الحرص على سلامة الوثيقة الدستورية التي تعد سند الحكم وأن يمنع المتلاعبين من العبث بها عن طريق تعريضها للشك. ومن واجب الموريتانيين الإنتباه إلى أن تعديل الدستور يتطلب عناية خاصة.