قد يقال إن اقتناء طائرة نقل مدني في عالم اليوم أمر عاد حيث شركات الطيران الدولية ذات الأساطيل المكونة من مائة أو مائتي طائرة من مختلف الأحجام، لكن بالرجوع إلى تاريخ الطيران المدني في بلادنا، يصبح اقتناء طائرة وإضافتها إلى أخريات كانت عاملة أمرا مهما ومبشرا بأن هناك إرادة حقيقية،
ليس في إنشاء شركة للطيران فحسب، بل وفي نموها وتوسعها كذلك..
فقد بدأ النقل الجوي في بلادنا بشركة الخطوط الجوية الموريتانية، وبتشغيل طائرة واحدة كانت تحمل ذلك الاسم وذلك الشعار لا أعرف طرازها إذ لم أعاصر تلك الحقبة، لكنها خرجت من الخدمة أواخر السبعينات، وفي بداية الثمانينات اقتنت الشركة طائرتين متوسطتي الحجم من نوع " فوكير 28 " وشكلتا أسطولا بقي لما يزيد على عقد من الزمن على حاله دون زيادة، إلى أن تحطمت إحداهما في تجكجه فاتح يوليو 1994، وخرجت الأخرى من الخدمة بعد ذلك بسنتين أو ثلاث، وحدث ذلك والشركة التي باعتهما لا زالت تطالب ببقية ثمنهما كما قيل آنذاك.
أرادت الدولة بعد ذلك الحفاظ على اسم الشركة عن طريق تشغيل طائرتين مؤجرتين من عند خصوصيين أوربيين ظلوا يطاردون هاتين الطائرتين في المطارات بسبب تأخر الشركة في دفع أقساط التأجير، وعدم التزامها بالصيانة الدورية للطائرتين إلى أن احتجزهما مالكوهما، وبذلك أعلن إفلاس الشركة وتصفية مقرها وتسريح عمالها. وذلك بالرغم من أن الدولة ظلت تضخ في الشركة مبالغ معتبرة قيل إنها مليارات في كل مرة لإنقاذها، فلا تلك المبالغ أنقذتها ولا عائدات الشركة ضمنت لها الاستمرارية، والسبب معروف وهو تعامل المسيرين مع الشركة بأساليب التسيير التي كانت سائدة في كل القطاعات، أي مبدأ لك الساعة التي أنت فيها والمؤمل غيب.. فماتت الشركة مرتين كما حدث مع " الخندر " الذي يقال إنه سقط في البئر فمات ثم سقطت عليه البئر فمات.. أفلست الشركة ووضع اسمها على اللائحة السوداء حظرا على طائراتها " المفترضة " من التحليق في الأجواء الأوربية!
استغل خصوصيون أجانب ومحليون الفراغ الذي أحدثه إفلاس شركة الخطوط الجوية الموريتانية، فأنشأوا شركة " موريتانيا للطيران " ذات رأس المال المختلط بنصيب أسد للشركاء الأجانب، فاستخدموا طائرتين من نوع " إيرباص " مؤجرتين أيضا من عند شركة طيران إقليمية، فركزت هذه الشركة على السوق والوجهات الإفريقية أساسا، وشغلت بعضا من " يتامى " الخطوط الجوية الموريتانية المفلسة.
عملت شركة " موريتانيا للطيران " لثلاث سنوات ( 2008 ـ 2010 ) وجنت أرباحا كبيرة كما قال ذلك من كانوا على مقربة من تسييرها من الموظفين الموريتانيين رغم قلة عددهم بسبب احتكار المساهم الأكبر في الشركة لوظائفها، ورغم إحاطتها بالتكتم لعملياتها.. إلا أن تأكدها من جدية الحكومة الموريتانية في إنشاء شركة وطنية للطيران، أشعرها بخطر المنافسة التي ستخلقها الشركة المزمع إنشاؤها، فحزمت أمتعتها على عجل وادعت الإفلاس وغادرت بحقوق العمال والشركاء الموريتانيين، قبل أن يتم استرجاع تلك الحقوق أو بعضها بعد سنوات من المماطلة والتقاضي.
وهكذا بدأت شركة " الموريتانية للطيران " تشغيل طائراتها الثلاث التي أقتنتها أواخر سنة 2011، والتي قال الفنيون يومها إنها لا زالت في حالة فنية جيدة تسمح لها بالتشغيل بأمان لمدة 12 سنة قادمة، ومن ثم يمكن تشغيلها لأغراض الشحن الجوي، ولا يهمنا في كثير طريقة اقتناء تلك الطائرات وكونها مقتناة بأموال مؤسسات عمومية ما دامت أموال عمومية استخدمت لمصالح عمومية، ولن يكون استخدام أموال تلك المؤسسات في شراء طائرات بأخطر عليها من ذهاب تلك الأموال سدى في جيوب خصوصية لم يبق لها أثر لا في صورة طائرة ولا حتى في صورة " حمار "، عمومي أقصد..!
ولا تخفى المصالح العمومية لمؤسسة طيران وطنية استوعبت المئات من العمال والفنيين الموريتانيين، ودعمت سيادة الدولة واقتصدت أرصدتها من العملة الصعبة أن أغنتها عن اللجوء لتأجير الطائرات لتنقل كبار مسؤوليها واستجلاب رعاياها من بؤر الأزمات. ولشركات الطيران أيضا جانب " دبلوماسي " تعريفي بالبلدان عن طريق حملها لاسم وعلم البلد والتنقل بهما عبر المطارات.. وتتذكرون أننا لبينا عدة مرات طلبات رؤساء لبلدان المنطقة بتوفير طائرات موريتانية أقلتهم لعواصم مختلفة وعادت بهم لبلدانهم من عواصم أخرى، وخلال قمة نواكشوط قبل أشهر أقلت طائراتنا وفد الجامعة العربية من وإلى القاهرة، كما أقلت رئيس إحدى الدول الأعضاء من وإلى بلده، وفي كل ذلك ما فيه من حضور للبلد والتعريف به وخدمة علاقاته العامة..
وقد كنت مرة في قاعة المسافرين بمطار بماكو في انتظار رحلة الخطوط الموريتانية باماكوـ داكار ـ نواكشوط، وكان بجانبي مواطنان أستراليان وكانت على مدرج المطار طائرتان صغيرتان إحداهما مالية والأخرى بوركينابية حجز الأستراليان على متنها باتجاه داكار، فحطت طائرة " البوينغ " التابعة لشركة " الموريتانية للطيران " على مدرج المطار، فقال أحد الاسترالييْن أوووه.. ( Mauritania Airlines )! وسألني قائلا: أنا أعرف أن هناك بلدا اسمه موريتانيا لكنني لا أعرف أين يوجد.. قلت له موريتانيا تحد البلد الذي توجد به الآن من الشمال والغرب وتحد البلد الذي ستسافر إليه من الشمال، وأخذت ورقة وقلما وأوضحت له أين نوجد على الخريطة.. قال وهل توجد ممثلية لشركتكم للطيران في باماكو؟ قلت نعم توجد، فقال لو كنت أعلم لحجزت أنا وزميلي على متنها بدل هذه الطائرة الصغيرة المخيفة كما قال..
منذ أواخر سنة 2011، وطائرات الشركة الوطنية تعمل بانتظام، وفرضت على شركات الطيران الأخرى تسيير الرحالات من وإلى بلادنا بالتناصف بينها وبين تلك الشركات، وقد تم تعزيزها قبل فترة بطائرة متوسطة الحجم لتأمين الرحالات الداخلية وبعض الرحلات الإقليمية، وهاهي اليوم تتعزز أيضا بطائرة من المصنع هي الأكبر والأحدث، وفي الطريق طائرة أخرى من نفس الطراز أو أحسن منه، وكل ذلك سيصب في إطار خطط الشركة للتوسع وعصرنة وتحسين خدماتها، خصوصا أننا نوجد في شبه المنطقة المعروفة ببلدان الساحل وجنوب الصحراء، وهذه البلدان كالسنغال، ومالي، وبوركينا، وتشاد، والنيجر، وغامبيا والغينيتين.. لا تمتلك شركات نقل جوي، وهي سوق كبير نسبيا وقد بدأت بعض شركات الطيران الدولية اكتشاف الفراغ في النقل الجوي به وبدأت تستغله كالتركية مثلا.. ونحن أقرب لهذه المنطقة جغرافيا وثقافيا، وتربطنا بكل بلدانها منظمات إقليمية واتفاقيات بينية وبالتالي فنحن أقدر على الاستفادة من هذا السوق إذا عرفنا كيف نستغله ونركز عليه، مع إمكانية تجريب خطوط أخرى كجدة ـ دبي مثلا العامر بالتجار والسياح والمعتمرين..
مما سيساعد الشركة على التطور والنمو والتوسع، علاوة على تعزيز أسطولها، خروجها من اللائحة السوداء وانضمام بلادنا قبل أشهر للمنظمة الدولية للطيران المدني وما سيتيحه ذلك للشركة من فرص للتكوين والتعاون الفني، وكذلك الإعداد لإنشاء وكالة ملاحة جوية وطنية استكمالا لتحكمنا في أجوائنا التي ظلت وإلى وقت قريب خارجة عن سيادتنا، حيث أنه، وإلى غاية سنة 2009، كانت كل الطائرات المتجه لبلادنا، بما في ذلك طائرات الملوك والرؤساء، تدخل أجواءنا لكنها بدل الاتصال ببرج المراقبة في مطار نواكشوط يكون اتصالها ببرج المراقبة بمطار داكار! وقد قال لي صديق لي موظف بوكالة الطيران المدني إن الرئيس محمد ولد عبد العزيز استدعاهم مرة سنة 2009 وسألهم ما السبب في ذلك؟ فقالوا له إنها وضعية وجدوها أمامهم منذ الاستقلال وإلى ذلك الحين، وأن الأمر لم يجد فقط من يبحثه إذ لا يتطلب سوى اقتناء أجهزة فنية وتكوين فنيين، فأمر باقتناء تلك الأجهزة وبدأ تكوين الفنيين وأصبحنا نحن من نوجه الطائرات في أجوائنا.
سيساعد الشركة أيضا على النمو والتطور ما ساعدها في السابق على الاستمرارية من تسيير ورقابة صارمة قال رئيس الجمهورية مرات إنه يتابعها شخصيا بشكل أسبوعي لكي لا تلقى نفس مصير سابقاتها بسبب الهدر و" التفليس "! كما أنه، أي الرئيس، حث المواطنين في خطاب النعمة على دعم شركتهم للنقل الجوي من خلال إعطائها الأولوية في أسفارهم وكرر تلك المناشدة بالأمس خلال تفقده للطائرة الجديدة، وقد قرأت تدوينة لوزير المالية في نفس الإطار أحييه عليها.. إذ لا ينبغي هنا أن يختلط علينا الترويج والخطاب التوجيهي الوطني، فالحث على استخدام الطائرات الوطنية لا يختلف عن الحث على استهلاك المنتجات الوطنية دعما للإنتاج والتشغيل..
لكنني أعتقد أنه من الآن فصاعدا على الشركة أن تتلافى التقصير في التعريف بنفسها والترويج لخدماتها ورحلاتها الذي طبع مسيرتها منذ نشأتها، إذ من المعلوم أن بداية النشأة لأي نشاط هي الفترة التي يكون فيها بحاجة أكثر إلى التعريف به والترويج له، في حين أننا لم نجد أي إشهار لهذه الشركة في وسائل الإعلام، ولا توجد لها لوحات إشهارية في الشوارع، والقليل من المواطنين هم من على علم بوجودها وبوجهاتها أحرى مواطني البلدان الأخرى التي تسير رحلات باتجاهها! وعليها كذلك أن تطلق مسابقة يطلق فيها المبدعون العنان لأخيلتهم لاختيار شعار جديد وخطوط جديدة لها تنطلق بهما في ثوب جديد.. كما أنني متأكد من وعي القائمين على الشركة بحجم المنافسة الشديدة التي تواجهها من شركات طيران أخرى عريقة عاملة في أجواء المنطقة، وما يعنيه ذلك من أن مناشدة المواطنين لدعم شركتهم بالسفر على طائراتها مهم لكنه لا يكفي، لأن المعايير التي يختار عليها المسافرون شركات الطيران معروفة ومحددة، وهي التي تمثل مسرح المنافسة والتفاضل بين شركات الطيران كخدمات التذاكر والأسعار، والخدمات بالمطارات، والخدمات في الأجواء، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.. لكن بالعمل والمثابرة واليقظة والتخطيط.