أيام فى اسطمبول .. الحلقة الثانية - مع الثوار/ أحمدو ولد الوديعة

 أحمدو ولد الوديعةقدر الله أن أكون في القاهرة في اليوم الذي أعلنت فيه نتائج  آخر انتخابات تشريعية  في مصر ما قبل الثورة، وفي صباح أول أيامي في القاهرة أخذت عددا من صحيفة الأهرام فهالني ما رأيت من سقوط مريع فالعنوان الرئيس كان "الوطني يحصد ثقة الشعب في كذا دائرة.. والمحظورة تتأهل للشوط الثاني في كذا دائرة".. 

فهمت من خلال التفاصيل أن المحظورة تعني جماعة الإخوان المسلمين التي كانت القوة المعارضة الوحيدة التي شاركت في الانتخابات قبل أن تنسحب بين الشوطين.

 قلت لصحفيين مصريين التقيتهم ضمن ملتقى حول التغطية الإعلامية إبان الأزمات إني مصدوم من الحال الذي وصلت إليه مصر فمع أني كنت أعرف من الخارج أن مصر تردت كثيرا لكن ليس من رأى كمن سمع..

 

  أمضيت ثلاثة أيام في مصر في مستهل شهر دجمبر 2010، وخرجت منها وأنا متيقن أن أيام حكم مبارك في نهايتها؛ فعمال الفندق ساخطون وأصحاب المحلات التجارية متذمرون وسائق التاكسي الذي أوصلني للمطار  حكى لي عن قصص مروعة من فساد آل مبارك وانسداد الأفق أمام أي إصلاح للنظام

 

 نفس الشعور لدي الجميع وإن هم .. صمتوا وكان الموت في إعلاني

 كما قال الشاعر المصري الشهيد هاشم  الرفاعي في قصيدته الرائعة

 

 أبتاه ما ذا قد يخط بناني... والحبل والجلاد ينتظراني

 هذا الكتاب إليك من زنزانة .. مقرورة صخرية الجدران

 لم تبق إلا ليلة أحيا بها.. وأحس أن ظلامها أكفاني

بعد أسابيع من خروجي من مصر اندلعت الثورة في تونس وانتهت بهروب بن علي وكانت أعين العالم كلها على مصر، وكنت مع كثيرين أعرف أن حديث أبو الغيط عن اختلاف مصر عن تونس حديث مزيف ومختلف شأن بقية أحاديثه سيئة الذكر.

 

كنت خلال الفترة التي تلت اندلاع ونجاح الثورة المصرية متلهفا للقاء مصريين عايشوا الثورة الرائعة التي حقق فيها شباب مصر خلال أسابيع ما عجزت كل الأمة عن تحقيقه خلال قرن، وكم كانت سعادتي كبيرة  عندما التقيت في أول أيامي باسطنبول  شبابا ومثقفين مصريين شاركوا في الثورة وحضروا إلى اسطنبول للمشاركة في الفعالية الداعمة للقدس وفلسطين وغيرها من الفعاليات الإسلامية التي احتضنتها اسطنبول خلال أسبوع ذكرى فتح القسطنطينية

 

 وراء كل التفاصيل التي يقدمها  الدكتور رضا فهمي، وهو أستاذ إعلام جامعي من القيادات الشبابية في جماعة الإخوان المسلمين عن طريقة إشعال الثورة وصمودها هناك إصرار غير متكلف منه ومن الشباب المحيطين به على أن ما حصل كان أمرا ربانيا ولم يكن متخيلا من أحد، إنه انتقام إلهي من نظام طغى وتجبر وانتصار لشعب وأمة طحنهم صلف مبارك وأبو الغيط حتى تساءلوا متى نصر الله؟ فكانت الإجابة الربانية الأبدية "  ألا إن نصر الله قريب. "

 يتحدث شباب ميدان التحرير عن نماذج مبهرة من الأخوة عاشها المصريون في الميدان وعن صور رائعة من التضحية والصمود، صنعها شباب مصر وكهولها ورجالها ونسائها

  من بين كل ما حكاه رضا وإخوانه عن يوميات الثورة استوقفتني ملاحظات ثلاث بدت لي جوهرية في درس الثورة المصرية وفي مختلف الثورات السابقة واللاحقة

 

 

      - أن الثورة كانت بالفعل ثورة كل المصريين وأن وظيفة القوى السياسية والإجتماعية المصرية لم تكن أكثر من القيادة والتأطير والتوجيه، فقد شارك في الثورة شيوخ فوق السبعين  إلى جانب شباب وشابات تحت العشرين وكان واضحا منذ لحظتها الأولى أن الشعب المصري الذى خنقته سياسات مبارك قرر أن يثأر من سنوات القهر والفجور وأن يعيد إلى مصر هيبتها ومكانتها بين الأمم.

 - أن حركة الإخوان المسلمين التى كانت خلال الثلاثين سنة الماضية رأس الحربة في مواجهة نظام مبارك، استطاعت بعد تردد أن تخرج عن نهجها الممسك للعصا من الوسط فقررت منذ لحظة واقعة الجمل أن تنزل بكل قوتها لتحمى الثورة المصرية من الارتكاس  وهو قرار سيكتبه التاريخ للإخوان المصريين فقد قام عشرات الآلاف من أفراد وكوادر التنظيم بحماية ميدان التحرير وتطهيره من البلطجية  الذين احتجز الثوار العشرات منهم في معتقل قريب من الميدان بعد أن لاحظوا أن الجيش كان يطلق سراح المجموعات التي توصل  إليه  بعد ساعات  من تسلمها من الثوار، وفي ذلك أقوى دليل على أن الجيش المصري الذى صوره الثوار – تكتيكا – على أنه " يد واحدة مع الثورة" لم يكن كذلك في الواقع بل إنه كان مناصرا لمبارك وراغبا فى سحق الثورة لكنه وجد نفسه فى النهاية مضطرا للتلاحم مع الجماهير التي خرجت عن بكرة أبيها فقد كان واضحا أن  كل المصريين مع الثورة وبالتالى فلم يكن قرار مواجهتهم قرارا بسيطا لأنه ليس قرار مواجهة الإخوان ولا اليسار ولا كفاية بل كان في الواقع قرار مواجهة مصر بكاملها، ولم يكن ذلك القرار بمقدور أي كان.

  -  أن تحديات ما بعد الثورة ليست أقل  خطورة من تحديات الثورة نفسها، فقد أجمعت القوى المعادية  للحرية  أمرها وأخذت تسلك مسالك مختلفة من أجل التشويش على الشعب المصري وتبغيض الثورة إليه، ودفعه إلى وضعية إقتصادية ربما تجعله يحن إلى أيام مبارك  فيترحم على الحجاج

 وقد أبدع الثوار المصريون عند الانتباه إلى بوادر تشكل الثورة المضادة فاستأنفوا ثورتهم وصعدوا من مطالبهم  متخذين لكل جمعة قضية وشعارا وجموعا مليونية حتى انحسر قادة الثورة المضادة وتفرق شمل الكثير منهم، ومع ذلك فما زلت مقاومتهم شديدة لأنهم يدركون أن حرية مصر لها ما بعدها فى الداخل المصري بل فى مختلف  العالم الإسلامي.

 كان حديث الثورات هو الطاغي على مختلف الأحاديث وكان الكل يحدث عما يليه منها وسط شعور لدى الجميع أن ثورات الشعوب ضد المستبدين هي أيضا ثورة ضد الكيان الصهيوني وخطوة متقدمة على طريق تحرير المسجد الأقصى فالشعوب المستعبدة لاتحسن الكر ولا الفر وإنما تحسن الحليب أو الصر.

  كنت وأنا استمع لحديث الثورات القادم من مصر وتونس واليمن وسوريا وكيف استطاعت هذه الشعوب أن تغير مسار التاريخ خلال أيام وأسابيع وأشهر كنت استعيد فقرات من الكتاب الرائع الذى استمتعت بمطالعته خلال الطريق إلى اسطمبول حيث يقول الكواكبي عن الدور الحاسم الذى يلعبه العوام في بقاء الاستبداد أو زواله

  " بين الاستبداد والعلم حربً دائمةً وطراد مستمر: يسعى العلماء في تنوير العقول، ويجتهد المستبدُّ في إطفاء نورها، والطرفان يتجاذبان العوام. ومن هم العوام؟ هم أولئك الذين إذا جهلوا خافوا، وإذا خافوا استسلموا، كما أنَّهم هم الذين متى علموا قالوا، ومتى قالوا فعلوا.

العوام هم قوة المستبدُّ وقُوْتُهُ. بهم عليهم يصول ويطول؛ يأسرهم فيتهللون لشوكته؛ ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقائه حياتهم؛ ويهينهم فيثنون على رفعته؛ ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته؛ وإذا أسرف في أموالهم يقولون كريماً؛ وإذا قتل منهم لم يمثِّل يعتبرونه رحيماً؛ ويسوقهم إلى خطر الموت، فيطيعونه حذر التوبيخ؛ وإن نقم عليه منهم بعض الأباة قاتلهم كأنهم بُغاة.

والحاصل أنَّ العوام يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشئ عن الجهل والغباوة، فإذا ارتفع الجهل وتنوَّر العقل زال الخوف، وأصبح الناس لا ينقادون طبعاً لغير منافعهم، كما قيل: العاقل لا يخدم غير نفسه، وعند ذلك لا بدَّ للمستبدِّ من الاعتزال أو الاعتدال. وكم أجبرت الأمم بترقّيها المستبدَّ اللئيم على الترقّي معها والانقلاب –رغم طبعه- إلى وكيلٍ أمين يهاب الحساب، ورئيسٍ عادل يخشى الانتقام، وأبٍ حليمٍ يتلذذ بالتحابب. وحينئذٍ تنال الأمة حياةً رضيّة هنية، حياة رخاء ونماء، حياة عزّ وسعادة "

10. أبريل 2012 - 21:10

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا